قراءة في كتاب دين العقل وفقه الواقع مناظرات بيني وبين الفقيه السيد احمد الحسني البغدادي ... المؤرخ الاستاذ الدكتور: مجيد هداب الهلهول

قراءة في كتاب
دين العقل وفقه الواقع
مناظرات بيني وبين الفقيه السيد احمد الحسني البغدادي
المؤرخ الاستاذ الدكتور: مجيد هداب الهلهول
هو كتاب منهجي ومفاهيمي يبحث بعمق في مناظرات دسمة بين شخصيّتين نجفيّتين من عائلتين دينيّتين عريقتين أحدهما علماني وماركسي و يساري، والثاني إسلامي وفقيه ومجتهد مبدع. وعلى الرغم من التقارب بينهما فثمّة اختلافات وتقاطعات واجتهادات عبّرا عنها في هذه المناظرات الشيقة والجريئة.
الكتاب يحمل إسم مؤلّفه المفكّر الدكتور عبد الحسين شعبان، الذي يلتقي فيه مع سماحة الفقيه المرجع السيّد أحمد الحسني البغدادي، وكُلّ منهما يمثل مدرسة تمرّد، سواء على اليسار أو على الحوزة، دون عداء لهما، ويخوضان النقاش والحوار بأريحية علمية وجدل نجفي وفقه وفلسفة وأدب.
تحدث المؤلف عن حالة اغتراب بين المسلمين والعالم المحيط، والعرب نموذج للمسلمين، وفي الحقيقة فإن هذا الاغتراب ناتج عن تباين حضاري، فضلا ًعن القيم والموروثات والعادات والتقاليد التي تشكل في مجملها حضارة امة.
والتباين بين العرب والأمم الاخرى في قضية المرأة على سبيل المثال لا الحصر ناتج عن قيم حضارية متباينة، فالمرأة بالنسبة للعربي قضية شرف، بينما الشرف في الغرب في العمل، كما ورد في كتاب "العقل العربي". وتبقى مسألة المرأة وحريتها وحقوقها موضوع جدل كبير في مجتمعاتنا.
اما التواصل مع الحضارة العالمية عبر تشذيب بعض العادات وهي ليست من الدين في شيء، وقد تؤدي الى زيادة الانتاج الزراعي والصناعي عبر استخدام وسائل إنتاج، فهذا أمر مفروغ منه، وليس فيه لبس، وهو ليس من صميم النظرية الدينية القائمة على تفسير الظواهر الكونية بمفهوم مطلق.
وأشار د. شعبان إلى المقدّس، وإمكانية نقده، فالمقدّس موجود لدى كل شعوب الأرض، ولكن التعصّب للمقدّس وبناء هالة حوله من الخرافات هي محل الانتقاد، لكي نشذب الخطأ ونبنى على الصالح من الافكار.
وتضمن الكتاب مناظرات ووجهات نظر للفقيه الإسلامي الحداثوي آية الله العظمى احمد الحسني البغدادي والتي تقوم على مفهوم تغيُّر الأحكام بتغير الزمان والمكان، ومن خلال الاجتهاد واستنباط الاحكام بالضرورة يؤدي الى التجديد في الخطاب الاسلامي، بعيدا عن القوالب الجاهزة والافكار الجامدة. ويتفق المؤلف مع نظيره تارة ويختلف تارة أخرى.
وأشارت المناظرة على لسان شعبان من خشية الكثير من رجال الدين من خطاب التجديد، وقد يكون السبب هو المصالح المحققة من حالة الجمود في التشريع الاسلامي، وادرك السيد البغدادي محاولات طمس منابع الفكر القائمة على النظرية العلمية، والتي ستؤدي بالضرورة إلى التجديد في الخطاب الإسلامي.
وما أبهرني في المناظرة هو الدعوة للتخلص من سلطة المقدّس، وتخطي الأساليب القديمة ويمكن لهذا المفهوم أن يأخذ إطاراً اجتماعياً، فشيخ العشيرة له سلطة معنوية على أفراد العشيرة نابعة من التعصب القبلي، ولكن هذه السلطة تكون عمياء لرجال الدين على أتباعهم، سيّما ضعيفي البصيرة. لذلك فالنقد واجب على العلماني والفقيه.
وأوضحت المناظرة أن الإيمان لا علاقة له بالطائفية، فالطائفيون أغلبهم غير متدينين، واستدلّ بالدستور العراقي لعام 2005 وكيفية تقسيم المناصب على أسس طائفية وعرقية، باسم المكونات، كما أوضح ذلك د. شعبان، واتضح من ذلك أن الطائفية تعصب خالي من الايمان.
واستنبط السيد البغدادي أن الإرهاب صناعة أمريكية، وإن اختلفنا معه في الرأي إلاّ أن هنالك إرهاب مصطنع، وأن الغرب المستعمر لشعوب العالم الثالث، إذا دافعت عن بلدانها تعد إرهابية، وقد صنّفت أمريكا الثورة الفيتنامية إرهابا، واحتلالها لبلاد الافغان ومواجهة الشعب الأفغاني للعدوان إرهابا، فيما وضعت أمريكا جدولاً للتعذيب في سجن أبو غريب وبوكا وغوانتينامو ، خرقت فيه جميع قواعد القانون الدولي الإنساني وهو ما أوضحه المؤلف وما أشار إليه السيد البغدادي حيث قال إن الحروب التي أحدثها الغرب باسم الله قديمة، والمثل على ذلك الحروب الصليبية التي يسميها المؤلف "حروب الفرنجة".
وتطرقت المناظرة إلى مفهوم رائع (دعوة اللاعنف ذريعة وخديعة)، حيث يتم نقد المهادنين والمساومين للاحتلال الأمريكي للعراق، بالدعوة إلى إيقاظ الأمة.
ونلاحظ أن المؤلف في المناظرة الرابعة تحدث عن المقدّس، والمدنّس، وأوضح أن هناك رجال دين يردون أن يضفوا على أنفسهم قدسية لا تمت للإسلام بصلة، ولديهم تفسيرات خاصه بهم في الآيات القرآنية يرون فيها التفسير المطلق، فيما أن الإمام علي يقول إن القران حمّال أوجه، ومن خلال المناظرة لم يتّضح رأي الفقيه الإسلامي احمد الحسني البغدادي بشكل واضح وجلي .
أما المناظرة الخامسة فقد جاءت لكي تجيب على الكثير من الأسئلة في ذهن طبقة المثقفين في المجتمع، وهل يجوز نقد رجال الدين ؟ فكان الجواب شافياً ووافياً إذ أكد أنهم مثل كل البشر يصيبون ويخطئون، والكثير منهم يستغل الجهل ويبطن غير ما يظهر، وان مدرسة السيد البغدادي تستند الى مدرسة جده سماحة الامام المجاهد السيد البغدادي، الذي دخل في صراع مع الكثير من رجال الدين حول هذا المفهوم.
ونقد السيد الحسني البغدادي مبدأ التقليد مؤكداً أن لا سند شرعياً له في الإسلام فلم يكن من الأصول ولا من الفروع، وأشار إلى أن التقليد يؤدي الى تجميد العقول بزعم ان هناك من يفكر نيابة عنهم، وأوضح مسالة مهمة هي الأموال التي يتصرّف بها المقلد دون رقابة حكومية أو شعبية وذلك بإضفاء القدسية على تصرفاته، وأن بعض المراجع يصدر الفتاوى بما يتلائم مع مصالحه المادية.
وانتقد السيد الحسني البغدادي ظاهرة الفتوى لمن هب ودب ومما ادى الى نتائج سلبية على المجتمع، وأخذت طابعاً معاكساً بعض الأحيان، مثل الشفاء من الأمراض لغرض الارتزاق والتي يمارسها من يدعون انهم اولياء صالحين، وكأنهم حصلوا على تزكية من الله. ووصف مفهوم التقية بانه ازدواجية وعليها الكثير من السلبيات، إذ لم يكن الرسول مكترث بالمخاطر واضطهاد قريش له كما كتب سماحته بشكل معمق في كتابه المثير الجدل خطر التقية المعاصرة.
ورفض السيد الحسني البغدادي الطائفية والتمذهب، وعندما سأله المؤلف الدكتور عبد الحسين شعبان عن هويته، أجاب بصدق بانتمائه إلى أمة كبيرة هي امة العرب ووطني العراق وهنالك امة اوسع امة الاسلام وما المذهب الشيعي الا فرقة من فرق الإسلام، وكان جواباً باهراً وعميقاً يستحق الاحترام.
وأشار في المناظرة الثامنة الى ان الاستعمار الامريكي هو من غذى الطائفية، منذ احتلال العراق عام 2003، وأن الفتن الأخرى في البلاد العربية مثل الخلاف بين حماس وفتح، والمسلمين والمسحيين في لبنان، والكورد والعرب في العراق، وان تقسيم مقاعد مجلس الحكم على أسس إثنية وطائفية، كانت البادرة الأولى والمتميزة في تشتيت الاوطان.
وأشارت المناظرات إلى الصراع بين من يدّعي تمثيل الطائفيين على الأوقاف، مثل الخلاف على الجوامع، وما يسبب من خلافات ونزاعات، فضلا عن النزاع داخل المذهب الواحد للسيطرة الى العتبات المقدسة، لما يشكل ذلك من واردات مالية، فضلاً عن انتزاع هذا الحق من المستحقّين.
وتكلم السيد الحسني البغدادي عن (البيان الشيعي) الذي وقعه 400 شخصية شيعية تحت عنوان المظلومية والتهميش السياسي والذي صدر في لندن، وذلك عشية الاستعدادات الامريكية لاحتلال العراق، ورفض السد البغدادي قانون تحرير العراق، وأسفه بأن هنالك من يسمي الاحتلال الامريكي بتحرير العراق، واوضح السيد البغدادي ان الشعب العراقي فيه تنوع كبير حتى وإن كان معظم السكان من العرب، وان مشكلة العراق لم تكن طائفية، بل مشكلة سياسية، كما ان السيد البغدادي ناهض مشروع التقسيم والفدرالية في العراق بعد الاحتلال، وان ما ورد في دستور عام 2005 لا علاقة له بالفدرالية الحقيقية المطبّقة في العديد من البلدان، بل هو تقسيم طائفي وإثني.
أما المناظرة الثامنة عشرة فقد كانت عن حكم المرتد والردة في الاسلام عندما طرحها المفكر الدكتور عبد الحسين شعبان على السيد البغدادي، وأوضح السيد البغدادي بأن الإلحاد نوعان أولهما أن الأقلية من الشيوعيين التي تلحد إلحاداً فلسفياً، وهنالك الأكثرية المؤمنة بالله ( كان في قريتنا سيداً شيوعياً فخرجت الجماهير تهتف باسمه شون تحاجي كاظم وكاظم قطعة من السوفييت)، والحقيقة أن النظرية الشيوعية قائمة على المادية ولا علاقة لها بوجود الاله، ثم تطرق الى التكفير في المذاهب وأنتقده، كون كل طرف يعد نفسه صاحب الحق المطلق ومن يرفض ما يطرحه فهو كافر. واتفق المفكران على أن المهم هو التشارك في النضال من أجل العدالة والحقوق والحرية وسعادة البشر وضدّ الاستغلال.
أما موضوع العصمة فان راي السيد البغدادي ترشح من خلال الإسهاب في أراء المذاهب الإسلامية، إلاّ أنه أكد أن النبيّ بشر مثلنا طبقاً (للآية 110) من صورة الكهف في القرآن الكريم وهو إنسان متفوق بالوحي، وليس فوق البشر( انا ابن امرأة تأكل القديد في مكة)، ووصف المفكر عبد الحسين شعبان عدم اجابة السيد الحسني البغدادي عن موضوع عصمة الأمة بوضوح في المناظرة حتى لا يغرد خارج السرب.
أما فيما يتعلق بالغيب فقد تطرق السيد الحسني البغدادي في آخر حديثه إلى أن البشر مهما كانت منزلته لا يدرك الغيب إلاّ إذا اختاره الله واصطفاه وخصه من عبده فعلم بما لا يعلمه الاخرون، والله اخبر النبي بما لا يعرفه الناس للنبي عن طريق الوحي، والامام علي تربى في حجره من ايام صباه.
والحقيقة ان هذا الكتاب وبما ورد فيه من مطارحات فكرية ومناظرات دينية يستحق القراءة والاطلاع عليه، فضلا عما تميز به من اسلوب جزل اعتدنا عليه في كتابات المفكر عبد الحسين شعبان، وما امتازت به طروحات السيد احمد الحسني البغدادي المعرفية والفقهية والجهادية المعهودة بالصراحة والوضوح والتجديد والحداثة من خلال رشحات قلمه الكريم في إصدار تفاسيره الست الاخيرة متصلة بما سبق من بحوثه المباركة التي أتحف بها المكتبة العربية، فضلاً من أنه رمزاً عروبياً وطنياً ورجلاً مجدداً في أساليب الرفض والمقاومة.. ولا يسمح لنفسه أن يراوغ أو يسكت وفي السكوت القبول بالأمر الواقع السياسي والتوفيقي.
وسبق لي أن بعثت له رسالة بخط يدي أحييه بحضوره الميداني مع ابناء ثوار شباب تشرين في وسط ساحة التحرير في بغداد المصادف صباح الخامس والعشرين من تشرين الاول عام 2019م ولم تكن مفاجئة لي لأنها ليست الخطوة الأولى أو الموقف الأول لسماحته بين الشباب الثائر فهو حاضر في كل أزمة تمس كرامة العراق الأبي.