مشروع النهوض

مشروع النهوض
د. حسن حنفي
الاجتهاد وتجديد الخطاب
بداية، ماذا يعني مشروع النهوض، ومتى؟ قديماً أم حديثاً أم كلاهما معاً على مدار التاريخ؟ وما هي المشروعات الحضارية الأخرى في النهوض؟ في الغرب، وهو الظاهر أم في الشرق وهو الأقل ظهوراً؟
وهو موضوع جزئي داخل موضوع أكثر تحديداً «الاجتهاد في الخطاب العربي الإسلامي» مع تحديد هدف له «نحو خطاب عربي إسلامي متجدد». وإذا كان الموضوع بمثل هذه العمومية فالخوف أن يأتي التحليل أيضاً عاماً. والعام معروف ومكرر منذ عدة أجيال منذ عصر النهضة في القرن التاسع عشر، وما زالت هذه الأجيال تسعى إليها وتلحق بها نظراً للكبوة التي نعيشها منذ عدة عقود.
وليس القصد من الاجتهاد ما هو معروف في علم أصول الفقه في صورة قياس شرعي منطقي، «تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع للتشابه بينهما في العلة» بل المقصود منه تجديد الخطاب العربي الإسلامي. هو إذن اجتهاد ذهني أكثر منه اجتهاداً واقعياً لإصدار حكم في واقعة جديدة. هو اجتهاد مقرون بعملية النهضة عن طريق ربط الاجتهاد بالقضايا المستحدثة على الساحتين الداخلية والخارجية، الإقليمية والعالمية، في مواجهة تحديات حضارية جديدة تحيط بالأمة الإسلامية. وهو اجتهاد في ظل ازدهار العلوم الإنسانية وليس مجرد قياس منطقي. هو اجتهاد يأخذ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتجددة من القدماء إلى المحدثين، «الاجتهاد الفقهي والتجديد الحضاري صنوان». الاجتهاد والتجديد والعمران ثلاثة مفاهيم يؤدي بعضها إلى البعض الآخر لإحياء ما اندثر، وتواصل ما انقطع، وبداية يبدأ المجددون منها. يتسع مفهوم الاجتهاد بحيث يشمل التجديد في العلوم الإسلامية القديمة بل وفي الموقف من الغرب، والموقف من الواقع الحالي بكل مشاكله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
الاجتهاد على ما هو معروف هو المصدر الرابع للتشريع، بعد الكتاب، والسنة، والإجماع. وله أسماء عديدة: الاجتهاد وهو أعم الألفاظ، والقياس، ودليل العقل، والاستصحاب، والاستحسان، والمصالح المرسلة، ألفاظ خاصة، أشكال حرة من الاستدلال.
ويقوم كما هو معروف على أربعة أركان: الأصل، الفرع، العلة، الحكم. الأصل هو المعروف حكمه، والفرع هو المجهول حكمه، والعلة هي الرابط المشترك بين الأصل والفرع، والحكم هو حكم الأصل الذي يتعدى إلى الفرع. فتعريف القياس عند القدماء «تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة».
والنص نفسه تجربة مستجدة. هو تجربة نموذجية أولى تتلوها تجارب متجددة أخرى. هو صياغة لتجربة تتلوها تجارب أخرى في حاجة إلى صياغة. كان النص في الأصل تجربة في المكان في «أسباب النزول»، وفي الزمان في «الناسخ والمنسوخ». كان إجابة على سؤال «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ»، أو «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ»... الخ. والجواب كان يدركه عمر رضي الله عنه ببداهته. لذلك سماه الرسول، صلى الله عليه وسلم، محدّث الأمة لأن في كل أمة محدّثاً. يأتي الوحي متفقاً معه ومصدقاً لحكمه.
والوحي يتطور بتطور الزمان ويجرب فيه «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثلِهَا»، من الأثقل إلى الأخف مثل الحساب «وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بهِ اللَّهُ» فلما ضج المسلمون من هذه نزلت آية أخرى للتخفيف «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا». ولما كان في أول الصيام عدم جواز معاشرة النساء واختان بعض المسلمين أنفسهم نزلت آية «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ». فأصبح من مبادئ الشريعة عدم جواز تكليف ما لا يُطاق. فالاجتهاد كائن داخل النص منذ نشأته وليس فقط في تفسيره وتأويله. يتطور حكمه بتطور الزمان وتغير المكان. هكذا فعل الشافعي بتغيير أحكامه من العراق إلى مصر.
وهو ليس فقط لاستنباط الأحكام أي آلية منطقية، قضية كبرى وهو الأصل، وقضية صغرى وهو الفرع، والحد الأوسط وهو العلة، والنتيجة وهي الحكم. بل هو تجديد للخطاب الإسلامي، والتوفيق بين النص المنزّل إلى النص المستنبط، من الوحي إلى العقل، من التنزيل إلى التأويل. فالخطاب الإنساني امتداد للخطاب الديني. الخطاب الجديد امتداد للخطاب القديم في تواصل وليس في انقطاع.
الاجتهاد إذن صلب المشروع التجديدي الإسلامي. يستأنف الرسالات السابقة. يصدّق ويتجاوز. فالوحي وحدة واحدة، رسالة واحدة منذ آدم حتى محمد، مروراً بأولي العزم آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد. ولذلك لا أتفق مع بعض الأقوال المأثورة مثل «لا اجتهاد مع النص» لأن الاجتهاد يكون دائماً مع النص في استنباط العلة من الأصل ودون نص في استقرائها في الفرع. وهذا الشعور يوقف الزمن عن التطور، ويقضي على حكمة النسخ، وظهور مجتهد على رأس كل مئة سنة يجدد للأمة دينها. النص دافع على الاجتهاد وليس مانعاً منه. والاجتهاد نص مفتوح متجدد في كل اللحظات، إنكار الاجتهاد باسم النص أو إنكار النص ذاته وإثبات الاجتهاد ضد النص هو أيضاً إنكار للاجتهاد ذاته. فالاجتهاد مع النص، والنص مع الاجتهاد. لذلك قال الفقهاء بتطابق النقل والعقل وبدرء التعارض بينهما، وبموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول. وهو موقف المعتزلة أيضاً.
لم يتجاوز الاجتهاد حتى الآن بعض الموضوعات الاقتصادية مثل فوائد البنوك وصناديق التوفير وهل هي ربا أم لا؟ وأُنشئت البنوك الإسلامية غير الربوية لاتقاء هذه الشبهة على رغم فتوى محمد عبده بإجازة فوائد صندوق التوفير لأنها تعادل هبوط سعر العملة وزيادة الأسعار وضعف القوة الشرائية المتزايد. كما لم تتجاوز بعض الاجتهادات في قانون الأحوال الشخصية مثل تعدد الزوجات وتقييده بموافقة الزوجة الأولى أو طلب الطلاق لما يقع عليها من ضرر أو يكون ذلك بموافقة القاضي حتى يقر شرعية السبب أو بمنعه على الإطلاق اعتماداً على النص بتعليق الحكم على شرط مستحيل وهو العدل بين الأزواج. ومازال النقاش دائراً حول النقاب، عبادة أم عادة، واجب أم ندب؟ وهناك مسائل أخرى معظمها تتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة مثل السلام باليد، الخلوة، العمل العام، قيادة السيارة، السفر دون محرم... الخ. وكلما صغر الموضوع تعددت الاجتهادات. وكلما كبر قلت. فبعض الفقهاء يهربون مما تعم به البلوى، ويتنافسون في الأمور الشخصية. إذا ما تعرض الاجتهاد إلى قضايا مصيرية مثل الحرب والسلام أو الرأسمالية والاشتراكية فإنه قد يصبح أداة لتبرير قرارات. فالمؤسسات الدينية جزء من الدولة وتنفذ سياساتها. فإذا أرادت بعد هزيمة يونيو 1967 اتباع سياسة مؤتمر الخرطوم، اللاءات الثلاث، لا صلح ولا مفاوضات ولا اعتراف بإسرائيل، صدرت فتوى من رجال الأزهر أنه لا يجوز الصلح مع بني إسرائيل طبقاً لآية «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ». فإذا تغيرت القيادة السياسية وأتت أخرى تذهب إلى إسرائيل تفاوضها وتصالحها وتعترف بها صدرت فتوى أخرى وربما من نفس العلماء أنه يجوز التفاوض والمصالحة والاعتراف بإسرائيل بناء على آية «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا». وإذا فتح معبر رفح تحت ضغط الفلسطينيين طلباً للماء والخبز أفتى العلماء «إِنمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ». وإذا أغلق المعبر خوفاً على الأمن القومي المصري من تهريب المخدرات والسلاح إلى سيناء وأقيم الجدار الفولاذي أفتى نفس العلماء بالجواز قياساً على غزوة الخندق أيام الرسول، وحفر خندق حول المدينة دفاعاً عنها. مع أن أعظم شهادة هي قول كلمة حق.