الظاهرة الجهادية والمعرفية المعاصرة عند أحمد الحسني البغدادي عصية على الاختصار والإيجاز
الظاهرة الجهادية والمعرفية المعاصرة
عند أحمد الحسني البغدادي عصية على الاختصار والإيجاز
ا.د. عبد الكاظم العبودي*
تسلمت نسخة الكترونية من كتاب [ " أحمد الحسني البغدادي" الظاهرة الجهادية والمعرفية المعاصرة]، من تأليف د. نذير القرشي والناشر : دار الحكمة للنشر والتوزيع / لندن ، الطبعة الأولى 2017 . الكتاب يقع في 311 صفحة، يتضمن مقدمة وتمهيداً متبوعا بثلاث فصول غنية بالهوامش والمراجع والإحالات الهامة والغنية بالمعطيات ، تناول الفصل الأول: (حول السيستاني بين إلغاء المسيرة والتحديات النضالية) في الصفحات ( 27 ــ 222) ، والفصل الثاني: (تحدي الممنوع في مقولاته الفقهية والعقدية) في الصفحات ( 223 ـــ 294 ) ، والفصل الثالث : (احمد الحسني البغدادي أمام مصادر الدراسة).
ربما أجد نفسي متوترا وبكثير من القلق من ان أضيف شيئا من ما يستحقه هذا المبحث الهام حول مكانة وموقع سماحة المرجع القائد السيد احمد الحسني البغدادي، خصوصا وان مقدمة وتمهيد هذا الكتاب ضم موقفا لي ومقطعا من قراءاتي الاولى حول أهمية وقيمة كتابات المرجع القائد بعد سنوات على تلك التوصيفات التي كتبناها عنه، وضمتها بعض كتب البغدادي وعديد مقالاتي ومحاضراتي حوله واليوم نستزيد علما ومعارف أخرى بما عاد به كاتب مقدمة ومؤلف هذا الكتاب الغني بكل جوانبه التحليلية والتوثيقية.
هذا الكتاب الجديد هو استحقاق متميز لما يحظى به السيد أحمد الحسني البغدادي، مفكرا وعالما إسلاميا وممارسا قياديا فاعلاً ومرشدا رائدا لما يمكن ان نسميه المقاومة الوطنية والاسلامية في العراق الثائرة ضد كل أشكال الاحتلال والظلم الاجتماعي والاضطهاد الطبقي.
وطالما ان السيد البغدادي لا يخفي انتمائه وفخره وانحيازه إلى ثورة الجياع والمحرومين، لا في العراق فقط؛ بل في كل بقاع العالم، فهو يستحوذ على موقع التفرد بوجهه الثوري قائدا من قادة الإسلام التقدمي المعاصر، في زمن اختلت المرجعيات الاسلاموية وأحزابها الثيوقراطية الخادمة للاحتلال ومطية التدخل فأجهزت على صورة الإسلام عندما استحوذت قوى الظلام والرجعية في لبوس المظهر الإسلامي فقدمته في صورة منفرة لكل ما هو تقدم وإصلاح ثوري ومعاصرة .
كتاب د. نذير القرشي يأتي كمحصلة واعية ورصد دقيق وقراءة وحوار متقدم مع السيد البغدادي ويعبر عن مكابدة ومعايشة واستخلاص مدرك لقيمة وتجليات الفكر الثوري والإنساني الذي يقدمه السيد احمد الحسني البغدادي إلى وطنه وأمته والعالم متجاوزا وبشجاعة نادرة محذورات واقع المحيط الاجتماعي الدنيوي، وفي زمن يرزح فيه الاحتلال والمصالح الاستعمارية والنفوذ الأجنبي فوق الإرادات الوطنية والحوزات والمرجعيات الإسلامية.
ولعل الملايين من مسلمي العالم محرومون من الاطلاع على هذا السفر المعرفي الكبير الذي ورد في ثنايا عرض هذا الكتاب وسابقاته من كتابات السيد البغدادي التي اطلعنا عليها في موسوعته الإسلامية الكبرى " تأصيل معرفي بين الثورية واللا ثورية" وعديد المؤلفات التي أصدرها السيد احمد الحسني البغدادي رغم ظروف الحصار والهجرة والمنافي والعزلة القسرية عليها داخل الوطن وخارجه إلا انه ظل يخترق حجب الحصارات وضيق الإمكانيات بما اقتطعه من خبز أولاده وأسرته وبعفة اليد واللسان والسلوك فتح نوافذ ثورته على العالم من خلال حضوره الفاعل المتواصل في موقعه الالكتروني الذي بات صوت المستضعفين فعلا وقبلة الثوار ومرجع النصح ومطلب الفتوى، ولا أخال ان التاريخ الإسلامي سيكون منصفا ان لم يمنح البغدادي لقب قائد الجهاد ومفتي المقاومة والثورة وقائد الانتفاضات الوطنية وصوت الحقيقة التي ينتظرها شعبنا.
ليست الفتوى عند السيد البغدادي فذلكة وتقولا وأسانيد مركبة لكلام له تقنياته وأساليبه وأساليب طرحه لإرضاء عامة أو خاصة الناس كما يحلوا لبعض المرجعيات الغارقة في وحول الدنيا ممن ارتضت الخوض باستقرارها في مستنقع الاحتلال .
ان الهم المعرفي وتجليات الوعي عند البغدادي كانت مبكرة منذ انخراطه بهموم التمرد الواعي على المظالم واستعداده للانخراط في تنظيمات العمل الثوري قلما وبندقية وفتوى ملتزمة بالحق ومواجهة العسف والمظالم التي شهدها العراق.
ولم يكن هذا الاستعداد المبكر عند السيد احمد الحسني البغدادي من دون جرأة واستعداد للتضحية في جميع المراحل التي نشأ فيها وطور معها أدواته الثورية مقاوما منطلقا من جوهر الرسالة الإسلامية المدركة لأهمية تحرير الإنسان والأوطان.
ان ما يحسب لهذا المرجع الإسلامي الكبير بحثه واجتهاده في واحدة من أهم موضوعات يومنا وعصرنا، ونحن نواجه التعسف والاستبداد ومظالم الاحتلال من جهة ونواجه الزيف والانحراف والتواطؤ مع الغزاة والمحتلين من لدن تلك المسميات الحوزوية والمرجعيات الخرساء من جهة أخرى.
أجاب آية الله السيد أحمد الحسني البغدادي على أسئلة عصرنا ومسائله الفقهية باستحقاق وعينا كي نقاوم وشحذ إرادة المسلمين ضد الاستبداد والظلم ومواجهة كشف زيف المتلاعبين بمقدراتنا الدينية السياسية في عراق باتت فيه بعض العمائم تحمل مضامين انتهازية الموقف، فلا هي سوداء منتمية حقا لآل البيت الاكارم، ولا هي طارئة على روح وجوهر عقيدة الإسلام السمحاء عندما نراها تفتش عن فتات خبزها اليومي على موائد اللئام والغزاة، و منها باتت رمادية اللون تقاتل شعبها برصاص الغادرين والمحتلين وتتبنى زيف المواقف وتتمسك بضلال الخطاب الديني والسياسي الدنيوي .
ان تثوير مرجعية الخطاب الديني وتأصيله بروح الثورة هي رسالة السيد البغدادي الإسلامية التي واجه من اجلها الكثير من التعسف والظلم حتى من تلك المرجعيات التي تتنادى في محافلها دون خجل إلى كبت شرارة الإسلام الثوري ومحاولة حجبه عن عامة الناس وخاصتهم ببراقع تهتك بها حرمة ومذهب أهل البيت الذين حشروا عنوة في دهاليز القوى الرجعية ومصالحها وحتى خدمة الغزاة والاحتلال.
ان السكوت على جرائم الاحتلال وتحريم المقاومة هو بمثابة كفر وردة تصدى لذلك الصمت السيد احمد الحسني البغدادي والدها مرارا في جوهر فتواه وهو يتناول الموقف من الغزاة الأمريكيين وحلفهم الصليبي ورفض تدخل الغرباء في شؤون العراق ، كما أن السيد احمد الحسني البغدادي، ظل يدعو إلى بناء جبهة الشعب المقاوم ، وهي أسمى المهمات البارزة في جهاده ودعوته، أينما حل وارتحل وأقام ، وعنده مهمة جمع شتات الوطن والمسلمين بكل طوائفهم ومذاهبهم كانت وستبقى أهم من جمع صفوف المصلين لصلاة يؤمها كإمام له موقفه الواعي والمتميز في حوار المذاهب وتوحيد المواقف وجمع صفوف المجاهدين المقاومين الرافضين للأطماع الاستعمارية.
يتجاوز السيد احمد الحسني البغدادي شكلانيات المقدس الدنيوي، وهو على ثبات الموقف من المقاومة ورجالها وظل يراجع مقولات المراجع وينتقد الخاطئ منها بكل جرأة ويقين ، يتابع مستجدات عصره دون طابوهات تتكلس في التقليد والجمود وترفض خانة المرجعيات التي تدعي الرشد والتعظيم لها في غير محله واستحقاقه، خاصة عندما تستفتي بالسكوت أمام الظلم و الحرمان، وهي بذلك لا تخاف الله عندما تمنع الرعية من الوقوف بوجه المتجبرين وقوى الاستكبار العالمي.
وإذا كان السيد احمد الحسني البغدادي قد وقف مبكرا في ريعان شبابه ضد مظالم الحكومات الدكتاتورية فانه وقف أيضا ضد قوى الاحتلال الأمريكي الصليبي ، ورفض صفوية التمذهب، واستنكر على المرجعيات تبعية الموقف الطائفي والتعصب والانغلاق، المدان شرعيا ووطنيا وقوميا وإنسانيا؛ لذا رفض السيد أحمد الحسني البغدادي تلك العملية السياسية الشوهاء التي فرضها الاحتلال الامريكي وباركتها بقية المرجعيات الخرساء، وفضح واستنكر وأدان دستورها الكسيح فاضحا ذلك الانبطاح الحوزوي والاسلاموي بقبول املاءات بول بريمر وسلطة الاحتلال ومجلس الحكم ورفض الامتثال أمام طلبات ومساعي الهيمنة الأجنبية لاستمالته أو حتى تحييده.
طالب السيد احمد الحسني البغدادي بحقوق شعب العراق في كل المحافل التي حضرها وخاطب العالم بصوت عال ورفض التدجين الذي قبلته بقية المرجعيات، طالب بالتحرر لشعبه وحق شعبه بسلطة شرعية عراقية مستقلة.
وكما رفض طائفية السياسة والانحياز المذهبي الأعمى، رفض فصل المقاومة الإسلامية عن حاضنتها الشعبية الوطنية الواسعة، من دون تفريق لها إلى طيفين او خندقين ، شيعي وأخر سني، فعبر عنهما سواسية في خطاب ثوري تحرري و بروح ووحدة الإسلام التحرري المقاوم، فكسب بذلك السيد احمد الحسني البغدادي ضمير كل العراقيين وأحرار العرب والمسلمين؛ بما فيهم العلمانيين والمثقفين، وظل مرحبا به قائدا ورائدا وداعيا ومفتيا للمقاومة أينما تواجد الثوار وحضر الموقف الثوري الرافض للغزو والاحتلال.
قدم الدكتور نذير القرشي خلاصة مركزة وكان موفقا في تقديم سفر كبير من المواقف والسيرة الناصعة للسيد احمد الحسني البغدادي ستبقى مفخرة للفكر الإسلامي، وفضح بتفاصيل هامة من الكتاب دعاة المرجعيات "الرشيدة" التي فقدت رشدها عندما ناهضت ووقفت ضد خطاب السيد احمد الحسني البغدادي وهو الصادق في ثورته وموقفه وهو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ثائرا وداعيا من دون مداهنة لأحد أو تخوف من مستبد أو طاغية.
ان عرضا مبتسرا عما كتبه بعض الإخوة من شهادات موثقة في الفصل الأول من الكتاب بحق السيد احمد الحسني البغدادي غير كافية، وهي قليلة وبخيلة بالتعريف بمكانته وريادته الفكرية، ويا حبذا ان تترجم كافة أعماله إلى بقية لغات العالم، استحقاقا لما اتسمت به أفكاره ومواقفه من عمق التحليل وخاصة في الموقف من قضية الاستعمار ونهب الشعوب فالسيد أحمد الحسني البغدادي قدم الكثير من الرؤى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الهامة، وهو يسهم في رسم صورة للعدل والمساواة وحقوق الإنسان المستضعف انطلاقا من فهم إسلامي عميق ومعاصر وحداثوي أيضاً.
ان قيمة كتابات السيد احمد الحسني البغدادي تكمن في عمق رصده وتحليله وصفاء سريرته وعدم غموضه ووضوحه وشفافية طرحه وصرامته ودفاعه عن المبادئ، وما كتبه يتسم بأسلوبية خطاب نهضوي معاصر عميق بوعي الإدراك الجمعي للمعاناة الإنسانية التي لا تواجه المسلمين وحدهم، ولا المؤمنين وحدهم؛ بل تعدت لمعالجة كل قضايا المحرومين كانوا مسلمين أو من بقية أهل الكتاب، وبذلك قيض البغدادي للخطاب الإسلامي الثوري المقاوم ان يتجاوز عتبة ديار الإسلام إلى العالمية.
عرف الكتاب بتوفيق كبير بشخصية وعروبة وأسرة السيد احمد البغدادي أحالنا الكتاب إلى سنوات وبواكير نضاله السياسي وجمعه بين العلم والافتاء والممارسة السياسية والجهادية، وبحكم اعتزازه بعروبته فانه نصر الإسلام بتقدميته وفهمه لتيارات الفكر المعاصر فحاور الجميع انطلاقا من علمه الغزير ودرايته بالتاريخ وفهمه الواقع واستشرافه المستقبل.
عرفت السيد البغدادي وتعاظمت مكانته في نفسي وإدراكي لأنه علمنا جميعا انه محاور وكاتب ومفتي ذكي، لا واعظ يكرر نفسه، بل عرفناه عالما ومجتهدا مجددا يتجاوز في كثير من المرات عتبات ما بعد الحداثة التي يتشدق بها بعض المثقفين من أصحاب الرطانات الفارغة، فهو نصير الثورة والمرأة والتحرر والحداثة، وهو شجاع المواقف في المنعطفات الحاسمة والمصيرية، متجاوزا ذلك (... الكذب والخداع كما تعودت به «المراجع الأربعة» على تضليل الناس وسكوتهم عن المحتل وجرائمه وعدم رفضه، على الرغم من كل ما فعلوه من جرائم مرعبة بالعراق يقول السيد البغدادي: «ماداموا يرفعون البندقية ضد الاحتلال الآن، سأكون معهم، وكل ما يضعف العدو ويسرِّع من رحيله فأنا معه حسب القاعدة التي ذكرناها».
الظاهرة الجهادية والمعرفية المعاصرة عند أحمد الحسني البغدادي عصية على الاختصار والإيجاز، ومن الصعب تقديمها في مقالة أو تعريف فصاحبها قامة إسلامية وخطابها مقاوم وجوهرها ذلك الإسلام الثوري العادل فما احرانا بإعادة قراءتها ما استطعنا إلى مؤلفات السيد احمد الحسني البغدادي سبيلا وهداية وإيمان بنجوى السير وراء مثل هذا القائد الفذ الكبير بكل معنى الكلمة وشرف البيعة والوفاء.
* مجلة ظلال الخيمة، العدد: 34 نيسان 2017م