محمد باقر الصدر بين الشاتمين والشامتين جاسوسية مهدي الحكيم نقاشات مجتزأة.. واشتباكات مرجعية

محمد باقر الصدر بين الشاتمين والشامتين
جاسوسية مهدي الحكيم
نقاشات مجتزأة .. واشتباكات "مرجعية"
... وقد أثار النص المذكور(يقصد المؤلف المدعو ابو طه محمد الحسيني الذي وصفه في مذكراته سماحة الفقيه المرجع احمد الحسني البغدادي - بانه لايتورع عن فعل شيئاً في سبيل التآمر على مجاهدي المقاومة الاسلامية في العراق وقد تخلى عن وجوده الحقيقي كأنسان - في كتابه: محمد باقر الصدر حياة حافلة.. فكر خلاق، صفحة 128، الناشر قلم مكنون، مطبعة شريعت، ط 1، 1428هـ) بدون مناسبة وبربط مقصود للإساءة إلى الصدر الأول محطة من محطات الصراع بين السيد محسن الحكيم وخصومه هي المحطة المتمثلة باتهام السيد مهدي الحكيم بالعمالة، وموقف السيد محمد الحسني البغدادي و«أسرته» من هذا الاتهام الذي له قصة على غاية من الإثارة مرتبطة بصراعات «الحوزة» ودور نظام البكر ـ صدام في توظيفها لأغراضه وأهدافه الذاتية..فعندما صدر اتهام ذلك النظام لمهدي الحكيم بالعمالة أذاع راديو بغداد «فتوى» التباسية عامة للسيد محمد الحسني البغدادي حول«الحكم الشرعي» في حق من يتجسس على بلده واستدلاله بالآية الكريمة:
{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وكان واضحاً ان نظام البكر ـ صدام أقدم على بث فتوى السيد محمد الحسني البغدادي هذه مسجلة بصوته بالتزامن مع اتهامه مهدي الحكيم بالتجسس بغية توظيفها لتمرير ذلك الاتهام عبر غطاء ديني«مرجعي ـ شيعي» يعد من خصوم محسن الحكيم وأسرته المشهورين وله منهجه«الثوري والفقهي» المغاير تماماً لمنهج السيد محسن«الإصلاحي المحدود»، ويحكم الاثنين قبليات صراعية واضحة ومعروفة وشديدة ومكثفة الوقائع والسجال في الوسط النجفي حول«أحقية» السيد محمد الحسني البغدادي في «الموقع المرجعي» مع ان الاثنين«عربُ» إلا ان عروبتهما تتغاير «معرفياً» و"انتمائياً" فالبغدادي يعد مرجعاً عربياً عريقاً في النسب وأيضاً متفوقاً من "الناحية الفقهية" في حين أن السيد محسن الحكيم يرجع الى "أصول إيرانية – أصفهانية" بعيدة كما يعتبر ذلك بعضهم، وعلاقته مع شاه إيران تجعله على خلاف مع البغدادي عدو شاه إيران المعروف... ومع الفارق بين الاثنين في "الفكر الثوري" ... سيستغل النظام آنذاك هذه الفوارق وأخرى غيرها ترتبط بسيرة كل منهما وطبيعة حياتهما في مايرتبط بالجوانب الخاصة وعامة وجوانب الإمكانات المادية وعامل الوطني سيستغل ذلك كله في أول ضربة يوجهها هذا النظام إلى خصمه آنذاك شاه إيران عبر اتهام ابن "المرجع الأعلى" بالتجسس لصالحه. ولم يجد ـ النظام ـ قطعاً ورقة رابحة في تمرير ضربته تلك أفضل من ورقة فتوى حول الجاسوسية أكثر وقعاً وتأثيراً من فتوى البغدادي وهو "يتهم" ابن "المرجع الأعلى" بالتجسس، ولذا فإن مثل هذه الفتوى وظفتها بعض عناصر "الحوزة" ضد البغدادي باعتبارها تعبر عن "اصطفاف" له مع "النظام" ضد "الحوزة"... وطورت في مابعد من قبل خصوم البغدادي إلى "مديح من قبله للسلطة"... وهذا ما أثار كثيراً من اللغط المكتوب والشفوي، وبقيت آثار هذا اللغط حاضرة في كتابة تاريخ العراق المعاصر بالشكل الذي يظهر أيضاً التعاطي المقلوب مع هذا التاريخ وبالشكل الذي يظهر مأساة العراق في ظل إخفاء الحقائق حتى من قبل مَن يفترض بهم ان يكشفوها... فبعضهم من أسر الرموز التي ظلمت في خضم هذا الصراع الحوزوي ولا تزال تتحاشى الكشف عن هذه الحقائق – على الأقل – لا بدافع الدفاع عن مظلومية هذه الرموز، وإنما بدافع الدين والوطن الذي ما عاد بعد اليوم مخفياً وصعباً على الفرز بعد واقع " الحوزة" الحالي وتواطئها مع المحتل الأميركي للعراق وحيث لم يعد من الصعب الفرز ـ فرز الصراعات الماضية ـ وكشف حقائقها للناس لكي لا تدفع الثمن قاسياً المرة تلو الأخرى. فقصة محمد الحسني البغدادي تلك لاتزال حتى هذا اليوم تكتب أو يوحى بها بالطريقة المقلوبة كما أشار إليها النص المذكور أنفاً أو نصوص – بعض الكتبة المعتاشين على مهنة الكتابة المشروطة بشروط الممولـ وفي رد لـ "الفقيه" علي الحسني البغدادي على أحد هؤلاء الكتبة الذين تطرقوا لتلك القصة والتقولات التي أضيفت حولها وعليه ورد ما يوضح بعض ملابساتها وليس كلها وسنضطر هنا إلى إدراج نصوص مطولة ـ نسبياً ـ من هذا الرد لأهمية القصة ودلالاتها حيث جاء فيه:
11) ص 399 اتهم السيد البغدادي بأنه امتدح نظام البعث ما هذا نصه: فأجريت معه مقابلة إذاعية في داره.. مدح فيها نظام البعث وطالب قيادته بمساعدته لبناء مدرسة علمية تابعة له « أقول: من المُسلّم به عليه لدى جميع الطبقات الاجتماعية المختلفة أن الإمام المجاهد السيد البغدادي لم يمتدح أي نظام جائر في جميع ادوار حياته، لاسيما في أيام نظام البعث، سواء كان ذلك عن طريق الكتابة المختومة بختمه أو عن طريق مقابلة إذاعية، لذا نجده في أيام حكومة عبد السلام عارف عندما حرفت بعض بياناته ضد(الطائفية) من قبل أزلام النظام وجه بياناً خطيراً ضد النظام وأعوانه كما سيأتي بيان موقف السيد البغدادي تجاه النظام، واني أتحدى هذا الكاتب المشبوه أن يثبت كلامه بالوثائق المعتبرة. أجل إن السيد البغدادي بارك (ثورة) 14 تموز 1958م كسائر المراجع وفي طليعتهم السيد الحكيم، ولكنه في ذلك خدع وندم على ما فعل..في مقالة في هذا الشأن في موسوعته الإسلامية الكبرى «التحصيل» وفي السنة الثانية من (الثورة) وجه رسالة خطيرة ضد عبد الكريم قاسم عندما خرجت دوائر الدولة في الشوارع في ايام مقتل سيد الشهداء الحسين (ع) بالرقص والتصفيق. راجع «جهاد السيد البغدادي»."وهنا نتساءل: لماذا هذا الكاتب لايعترض على السيد الخوئي عندما امتدح حكومة احمد حسن البكرحينما سافر إلى لندن للمعالجة حيث صرح بنفسه بان الحوزة العلمية بالنجف الأشرف بخير ولم تحصل مضايقات عليها من قبل الدولة وتسير سيراً طبيعياً وقد أذيعت هذه المقابلة عن طريق بعض القنوات العالمية؟!.. ومن الطريف ان المقابلة الإذاعية مع السيد البغدادي قد سجلت بآلة تسجيل موجودة عند بعض أحفاده ومفاد ما صرح به السيد البغدادي في هذه المقابلة انه يجب على الدولة الاهتمام بالمظاهر الإسلامية وحفظ اسم محمد (ص) ونشره في العالم، فإذا نصرتم الإسلام فاني مناصركم، فلم يمتدح نظام البعث، ولم يطالب بالمساعدة لبناء مدرسة علمية له، فهذا الكلام من أعظم مفترياته على السيد البغدادي. وان ادعى انه سمع هذا التصريح هو شخصياً أو سمعه عن طريق عملاء الشاه لاسيما عم زوجته العسكري القابع في طهران" (1).
ولماذا لا يعترض هذا الكاتب على السيد الخوئي عندما اجتمع مع صدام حسين في بغداد في ايام الانتفاضة الشعبانية عام1991م وانتقد الأعمال التي قام بها المجاهدون ضد أزلام النظام؟!.. ولماذا لايعترض هذا الكاتب على السيد الخوئي عندما أرسل رسالة خطية مختومة بختمه إلى الرئيس البكر أيد فيها تأميم شركة نفط العراق؟!.. ولماذا لا يعترض هذا الكاتب على السيد الخوئي عندما أفتى بجواز الانتماء إلى حزب البعث عندما سأله شخص من كربلاء كما اعترف هو بذلك ص 507 ـ 508، ولكنه دافع عنه بأن هذه الفتوى كانت صادرة منه تقية؟!.. ولماذا لا يعترض هذا الكاتب على السيد الخوئي من عدم مقاومته نظام البعث الذي قام بأعمال وحشية ضد الشيعة من تهجيرهم وإعدامهم، لاسيما رموز الحوزة العلمية وفي طليعتهم الشهيد الصدر الأول؟!.. ولماذا لا يهاجر هو وحوزته إلى خارج العراق كما هاجر الشيخ الطوسي إلى النجف الأشرف؟!.. الم تكن ارض الله واسعة؟ بل سكت وانعزل عن الساحة الجهادية الإسلامية؟!.. وهل يعلم ان هذه المواقف من ابرز العوامل التي أدت إلى تصدي الشهيد الصدر الأول للمرجعية في حياة استاذه السيد الخوئي؟!.. ولماذا يعترض هذا الكاتب على الصدر الأول على مثل هذا التصدي كما سيجيء بيان اعتراضه؟!.. ولماذا لا يعترض هذا الكاتب على السيد الخوئي حينما زارته زوجة الشاه محمد رضا بهلوي في داره قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران بأشهر قليلة وأهدى إليها(خاتم العقيق) واشتهر بين الناس انه أرسل رسالة يدعو الشعب الإيراني إلى الهدوء والسكينة؟!.. ولماذا لا يعترض على السيد الخوئي عندما اثبت رؤيا هلال شوال المبارك في ليلة 28 رمضان مع أهل السنة بأمر من مدير أمن النجف إبراهيم خلف؟!.. ولماذا لا يعترض هذا الكاتب على السيد الحكيم عنما أمتدح الرئيس عبد الرحمن عارف ونعته بولدنا المعظم عندما أرسل عبد الرحمن عارف رسالة إليه حول معركة حزيران ضد إسرائيل؟!»(2)
ويواصل كلامه قائلاً«ولماذا لا يعترض هذا الكاتب على الحكيم عندما سافر إلى حج بيت الله الحرام بطائرة خاصة تبرع بها الرئيس عبد الرحمن محمد عارف وكان رئيس الوزراء طاهر يحيى برفقته في المطار ؟!..
ولماذا لا يعترض هذا الكاتب على السيد الحكيم عندما اجتمع مع الملك فيصل الثاني وعبد الإله ونوري السعيد في الصحن العلوي الشريف؟!.. ولماذا لا يعترض هذا الكاتب على السيد الحكيم عندما زاره السفير الأمريكي بعد مدة من إفتائه بكفر الشيوعية؟!.. ولماذا لا يعترض هذا الكاتب على السيد الحكيم عندما زاره ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث وبرفقته البكر ورشيد مصلح في داره في الكوفة في انقلاب الثامن من شباط عام 1963م بعد بيان (13) الصادر في تصفية الشيوعيين في العراق عن بكرة أبيهم؟!.. ولماذا لا يعترض هذا الكاتب على موقف السيد الحكيم تجاه السيد الخميني في انتفاضته في الخامس من حزيران عام 1963 والى غير ذلك من المواقف التي لا مجال لذكرها ضد النظام البهلوي؟ ولماذا لايعترض على رسالة السيد محمد باقر الحكيم (الخطية) التي وجهها في أيام مضايقة البعثيين لمرجعية والده إلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين يتهم فيها الشهيد مصطفى الخميني في اجتماعه مع الرئيس البكر وانه هو وحاشيته ووالده يتعاونون مع حزب السلطة ويقفون عقبة في طريقهم؟!.. ولماذا لا يعترض هذا الكاتب على رموز أسرته من (رجالات) الحوزة العلمية الذين كانوا يحضرون احتفالات النظام البعثي وكان كبار المسؤوليين يقومون بزيارات متواصلة إلى دواوينهم، ومن أجل مواقفهم تجاه الدولة أطلق سراح بعض أبنائهم من السجن في أيام الانتفاضة الشعبانية وقد حصلوا على الإعفاء من الخدمة العسكرية، وقد جرت هذه السيرة من قبل رموز النظام مع حواشي جميع المراجع وأغلب رموز الحوزة؟!..»(3)
«12» وفي نقطة مستقلة أخرى حول ذات الموضوع جاء في الرد قوله ص399 إنَّ السيد البغدادي أدان السيد مهدي الحكيم بالتهم التي التي وجهها البعث الحاكم إليه. ولكن قوله هذا من جملة الأكاذيب القطعية على السيد البغدادي لأنَّ السيد البغدادي لم يصدر فتوى باتهام نفس السيد مهدي الحكيم بالجاسوسية مطلقاً، سواء أكان بتوقيعه وبختمه أو بمقابلة صوتية، وإني أتحداه أن يثبت ذلك .. أجل سئل سؤالاً عن رأي الإسلام حول الجاسوس للقوى الكافرة فأجاب جواباً مطلقاً من دون ذكر أي شخص معين، فإنه(قده) سئل في هذا الموضوع قبل اتهام السيد مهدي الحكيم بعدة أشهر، ثم نشرت بعد ذلك هذه الفتوى المطلقة في ترجمته المختزلة في كراس موقف الإمام البغدادي حول قضية تحرير فلسطين. وتجدر الإشارة إلى أن السيد البغدادي عاش أيام حكومة احمد حسن البكر ثلاث سنوات وخمسة اشهر وبضعة ايام، وكان مريضاً ومسجى مدة سنتين، ومنع من قبل نظام البعث من السفر إلى لندن للمعالجة مع العلم أن السيد الحكيم والسيد الخوئي سُمِحَ لهما بالسفر إلى لندن من اجل أجراء العلاج، وقبل أن يسافر السيد الخوئي إلى لندن، وكان راقداً في مستشفى مدينة الطب في بغداد، نصبت له خيمة امام المستشفى من قبل قيادة الحزب لاستقبال الوفود، وكان محافظ كربلاء شبيب المالكي يحث بعض رموز الحوزة على زيارة السيد الخوئي في مستشفى مدينة الطب.
صرح شقيقي الأكبر ـ دام ظله ـ حول سفر السيد البغدادي ـ قدس سره ـ إلى لندن للمعالجة فكتب يقول:
«في صيف 1970م أصابت السيد البغدادي وعكة صحية وعلى أثرها نقل إلى مستشفى اليرموك في بغداد.. وبقي فيه قرابة شهر ونيف في غيبوبة تارة ويقظة تاره أخرى، وبسبب هذا المرض العضال صممنا على نقله إلى مستشفيات لندن.. وعلى هذا الأساس قدمنا طلباً إلى الجهات المختصة للحصول على الرخصة بذلك، وبعد انتهاء المعاملة الأصولية والحصول على (الفيزا) غادرنا في الوقت المقرر النجف الأشرف متجهين إلى المطار الدولي، وبعد أن استقَّر بنا المقام في صالة الاستراحة قبل اقلاع الطائرة بساعة ونصف صدرت الأوامر من ضابط امن المطار بـ(المنع) لأسباب لا يمكن فهمها في تلك اللحظة الحرجة!.. وعلى اثر ذلك بعثنا وفداً على الفور برئاسة السيد حسام الدين الهادي الحسني إلى شبيب المالكي محافظ كربلاء المقدسة يستفسر عن الأسباب الرئيسية لمسألة المنع من المغادرة، بيد أن المالكي استغرب لهذا النبأ المفاجئ الذي لم يكن في الحسبان وأعطى موعداً للاجتماع بـ«القيادة» ليستفسر عن ذلك. ومهما يكن من أمر فقد فوجئنا في اليوم التالي بزيارة المحافظ، وبرفقته خير الله طلفاح وفريق من الأطباء الاختصاصين برئاسة الدكتور محسن العاني ـ الطبيب الخاص للرئيس العراقي احمد حسن البكرـ وبعد أجراء الفحوص الطبية الدقيقة عليه بادرنا قائلاً: اطمئنوا السيد لم يكن مصاباً بـ«مرض البروستات» وإنما هو بحاجة إلى إجراء عملية جراحية بسيطة في المجاري البولية، وبالفعل استجبنا لقوله وأدخلناه مستشفى مدينة الطب في بغداد، وأجريت له العملية على حسب ما يرام. وبعد سنة ونيف عاد المرض اليه ودخل عدة مرات إلى مستشفيات بغداد، ويئس الأطباء ذوو الاختصاصات العلمية المختلفة بسبب تكلسات المجاري البولية والمضاعفات الأخرى التي إصابته نتيجة هذا المرض المزمن. وقد فكرنا مرة أخرى في أخذ الرخصة من الجهات المختصة لمغادرة القطر، واجتمع السيد حسام الدين الهادي بالسيد عبد الرزاق الحبوبي محافظ كربلاء، واقترح عليه فكرة التداوي في مشتشفيات أوربا، فرحَّبَ بفكرة المغادرة أحسن ترحيب، ووعده بإنجاز المهمة بعد التشاور مع (القيادة) وبالفعل زارنا وقدم لنا الكتاب الرسمي بالمغادرة خارج القطر.
وفي صباح الخامس من تشرين الأول 1972 ذهبنا إلى المطار الدولي ففوجئنا مرة ثانية بـ(المنع من السفر) فكانت هذه المفاجئة في الحقيقة صدمة في حياتنا، ورحت أنا شخصياً أتحدث في سري: عجيب ألم يغادر قبله السيد محسن الحكيم (ت 1970)، وكانت بينه وبين حزب السلطة مقاطعة بسبب اتهام ولده بالتجسس لصالح الولايات المتحدة الأمريكية؟؟!!..»(2)
وجاء في الرد أيضاً: والسبب الأساس لحقد قيادة النظام البعثي على السيد البغدادي هو أن السيد البغدادي كان المبادر الأول لمساندة الشعائر الحسينية، راجع كتاب «جهاد السيد البغدادي» ص65، وأزلام هذا النظام البعثي يعتبرون الشعائر الحسينية من أهم الوسائل للقضاء على أفكارهم (العلمانية)، وأني أتذكر جيداً عندما أصدر النظام البعثي بياناً لمنع ممارسة طقوس الشعائر الحسينية لا سيما (التطبير) في أيام حكومة البكر 1970م، بسبب وقوع تصادم بين أهالي النجف وأجهزة الدولة ليلاً حتى أن بعض رموز الحزب شهر مسدسه أمام الصحن الحيدري الشريف وأطلق الرصاص، وفي هذه الواقعة أرسل السيد البغدادي على رموز النظام، وكان السيد عبد الرزاق الحبوبي والمرحوم السيد حسين الكليدار من جملة الوافدين، فنصحهم وحذرهم من منعهم طقوس الشعائر الحسينية وأمرهم بارجاعها فوراً.
فاتصل السيد شبيب المالكي محافظ كربلاء بنائب مجلس قيادة (الثورة) في هذا الشأن فامتثلوا أوامر السيد البغدادي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن مواقف أحفاد السيد البغدادي المعادية للنظام البعثي معروفة لدى جميع النجفيين وغيرهم، لذا اعتقل أخي السيد حيدر أيام الحرب العراقية الإيرانية لاتهامه بحزب الدعوة الاسلامية كذباً، واعتقل أخي الشهيد المهندس السيد فيصل في نفس ذلك الوقت واتهم بنفس الاتهام ثم أشترك في الانتفاضه الشعبانية عام 1991م، ثم قبض عليه واعدم، وكان أخي السيد حسين من رموز هذه الانتفاضة، وكان بيده المذياع ويخطب ضد النظام البعثي في الصحن الحيدري الشريف، ثم غادر مع المجاهدين بعد سقوط النجف إلى إيران، واعتقلت أنا أيضاً في أيام الحرب العراقية الإيرانية، وإما مواقف شقيقي الأكبر السيد احمد الحسني البغدادي (حفظه الله ورعاه) ضد النظام فمشهورة لا تحتاج إلى بيان، وإما موقفي تجاه النظام فراجع «اسألوا أهل الذكر» الحلقة الثانية، كما اعتقل عمي السيد تقي ونجلاه السيد عبد الكريم والسيد حسن بسبب هروبهما من الخدمة العسكرية، يضاف إلى ذلك كله أن الجهاز الإداري للسيد الخوئي لم يدرجوا أحفاد السيد البغدادي في قائمة الإعفاء من العسكرية في أيام الحرب العراقية الإيرانية حتى أني وجهت عتاباً للشيخ شريف كاشف الغطاء على هذه الأعمال الشنيعة فقال لي أن السيد محمد تقي الخوئي يقول في شأنكم إن مدير الأمن هو الذي امرني أن لا أدرج أسماء بيت السيد البغدادي في قائمة الإعفاء، وأمثال هذه المقولات مع العلم أنهم ادرجوا في تلك القائمة جميع ابناء حواشي السيد الخوئي من دون استثناء، بل كان بعضهم ليسوا من طلاب الحوزة!!.. كل ذلك بسبب أنَّ أحفاد السيد البغدادي من المساندين الأشداء للسيد الخميني حتى أن اغلبهم يرجعون إليه في التقليد.(5).
الاسباب الشارحة المغيبة
البغدادي وجاسوسية مهدي الحكيم
إننا في الواقع عندما نسرد هذه النصوص المطولة كلها التي قطعاً تثير قطعاً تساؤلات القارئ.. فإننا ننشرها، لا دفاعاً عن اسم السيد محمد الحسني البغدادي، بل دفاعاً عن مقدار جهده وجهوده تحت عنوان الإسلام والعراق، ولا نثيرها لأنها كانت إجابات «شافية ووافية» حول ذات «فتوى البغدادي» التي «وجهت» صراعياً ضد السيد محسن الحكيم.. بل لأنها نصوص متشابكة بما له علاقة، لا بالصراع المرجعي الحاد آنذاك فحسب، بل بما يقدم توصيفاً مسهباً لدور «المرجع الأعلى» وأثره على مصير الأمة، سواء ملأ هذا الموقع السيد محسن الحكيم أم السيد الخوئي وحال الشهيد محمد باقر الصدر في ظل كلا الاسمين أو «المرجعيتين»، فالصدر انتقل من قسوة «الحكيم» الإقصائية لمشروعه الإسلامي التأسيسي إلى قسوة أكثر إيلاماً واستهدافاً وطعناً، فهو ومن أين ما نظرت له نظرة مقارنه مع «المرجعيات»، أو مع حزب الدعوة الإسلامية، أو مع خصوم الحكيم، أو في ظل ملابسات علاقته مع الثورة الإسلامية التي مررنا عليها، تلاحظ مرارة هذه القسوة تصب عليها صباً بلا انقطاع.. وفي مراحل حياته ومن الجهات كلها مع تفاوت درجاتها ودوافعها ونواياها... ونعيد القول بان «شماتة» خصوم الحكيم به كنمط من أنماط هذه القسوة التي عاناها.. لم يكن بدافع الإيذاء، بل كان نابعاً من «التصنيف السطحي له على أنه انسجم مع محسن الحكيم» ونابعاً من غياب المعيار المعرفي الذي عالجناه سابقاً في النظر إليه. ومهما يكن من أمر فإن من يعيد النظر في التساؤلات التي أثارتها النصوص المطولة تلك لابد أنه يتوقف على الحشد الموقفي الوثائقي الهائل(6) لمواقف السيد الخوئي التي دفع ثمنها المرة تلو الأخرى الشهيد محمد باقر الصدر. وعودة إلى التباسات قصة «الفتوى» ذاتها لمحمد الحسني البغدادي المتزامنة مع اتهام مهدي الحكيم بالعمالة، فإن تلك النصوص بإسهابها إلا أنها جاءت «دفاعية» اعتمد الإسهاب فيها أدوات دفاعية مشروعة ومفيدة ومهمة وكاشفة للكثير من المخبوء لكننا نرى أنها «تهرب» ربما عن دفاع يرتكز إلى أدوات أكثر فاعلية في ما يرتبط بالتباسات الفتوى ذاتها، فالنصوص المطولة المذكورة رغم «تحدياتها المكرورة» للكاتب ـ الخرسان ـ الذي عالج الموضوع بطريقة مشوهة وربما قصدية إلا أنها تحاشت المباشرة «الهاجمة» على الموضوع بأدواته ذاتها لا الأدوات الأخرى، فأدوات القصة ـ الفتوى ـ تبقى أكثر من فردية لدحض «قصدية الكاتب» في تزوير التاريخ... ولا نعتقد أن «الهروب» من أدوات القصة ذاتها كان هروباً «عفويا»... لا بل هو هروب يقع في سياق التردد من المنهج الاقتحامي للرد في ظل مرحلة سقط في ظلها كل تردد، وهي تفرض فرضاً شرعياً الكشف الفاضح لما دار في الماضي من تزوير لتاريخ «الحوزة» المعاصر في النجف.. في ظل حاضر علني وصارخ ومدان في تعاطٍ الرموز «المرجعية لهذه الحوزة» مع الاحتلال الأميركي.. وهو تعاطي دفع الشعب العراقي ثمنه ولايزال يدفعه أنهاراً من دماء الأبرياء، فرموز «الحوزة» العليا ونهر الدم العراقي الجاري في الفترة التي نتحدث عنها باتا لصيقين كسبب ونتيجة.. كسبب أول في قائمة الأسباب الأخرى كلها وكنتيجة عراقية تفرض ذاتها سؤالاً مخجلاً ليس في العراق فحسب.. بل في العالم العربي والإسلامي كله. فلِم يتردد إذن كاتب هذهِ النصوص في اختيار أدوات الرد؟ وإلى متى يبقى هذا الشعب العراقي مشروعاً لدورات الموت والذبح المتنوع في ظل غياب ما أسميناه المنهج الاقتحامي بأدوات الموضوع المباشرة؟ إن أول ما يجب قوله في فك التباسات تلك الفتوى ـ وفق أدوات موضوعها ـ هو سكوت السيد محمد الحسني البغدادي في حينها عن توظيف السلطة لها وثاني ما يثار في فك تلك الالتباسات هو عدم استقوائه في حينه بخلفيات فتواه. ... ومن الواضح أو من المقطوع به وفق النص الذي قاله البغدادي وخلفياته ـ نحتفظ به مسجلاً ـ هو أنه سئل من قبل وفد من عاملين في الإذاعة العراقية آنذاك زاره إلى بيته قبل اتهام السيد مهدي الحكيم بالتجسس من قبل السلطة. بثلاثة أشهر، سئل عن الموقف الإسلامي أو «الحكم الإسلامي» بحق من يقوم بالتجسس على بلده.
فأجاب جوابه المعروف: ﴿اِنّمَا جَزَآءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتّلُوَاْ أو يُصَلّبُوَاْ أو تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلافٍ أو يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدّنْيَا وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
وقطعاً أن السؤال كان عاماً عن الجاسوسية، كما أنه أجري قبل ثلاثة أشهر من اتهام النظام مهدي الحكيم بالتجسس والسيد البغدادي لم يعرف في حينها أن السلطة إنما أجرت معه هذا اللقاء وهي تنوي وتبيت استخدامه لاحقاً ضد أحد، سواء كان مهدي الحكيم أم غيره. ولذا فإن السؤال المركزي الذي يطرح ذاته بقوة ولم تجب عنه أو تعالجه تلك النصوص المطولة هو لماذا سكت محمد الحسني البغدادي إزاء توظيف السلطة للقاء عام أجرته معه قبل ثلاثة أشهر وبما يدخله ـ أي البغدادي ـ في المحاذير التي كان يتحاشاها؟ والمتوقع في مثل هذه الحالة ووفق السياق الصراعي الذي حكم «الحوزة» قبل تلك الفتوى ومنهج تعاطيه مع هذه الصراعات التي يلحظ دارس حياته ودوره أنه حَذِر في مثل الأمور... المتوقع أن يصدر البغدادي بياناً توضيحياً لخلفيات هذه «الفتوى» وطبيعة توظيف السلطة لها للرأي عام العراقي والإسلامي .. إلا أن هذا المتوقع لم يحصل، ولم يصدر البغدادي بياناً توضيحياً إزاء ذلك بما «يكرس» اتهاماتهم «المعروفة» له بأنه كان على «تفاهم مع الأنظمة» وهو واحد من الاتهامات العديدة التي اعتادت «الحوزة» أن تقذف بها أي موقع رموزي ثوري حقيقي خارج دائرة الارتباط بالخارج... فهذه «الحوزة» وباعتراف أبرز رموزها الإمام الخميني الذي قضى ثلاثة عشر عاماً في العراق تفبرك التهم الجاهزة وتوزعها وتشيعها عبر أجهزة إشاعة معدة وحاضرة لذلك فتقذف أحدهم ـ الرموز الثورية ـ بتهمة الإلحاد وتقذف الثاني بتهمة الوهابية والثالث بتهمة «التسنن» والرابع بتهمة «التعاون مع السلطة»...الخ من الاتهامات ولم يسلم طوال أكثر من قرن ثائر أو مفكر «حوزوي» من تهمة أو أكثر من هذه التهم القاسية الملفقة و«التسقيطية» لهالة هذه الرموز لم يسلم من ذلك عبد الكريم الزنجاني ولا محمد الخالصي ولا السيد البغدادي ولا الشهيد محمد باقر الصدر ولا الشهيد محمد محمد صادق الصدر ولا أي رمز ثوري آخر. وكان واضحاً أن التهمة التي حورب بها محمد الحسني البغدادي هي تهمة «التعامل مع الأنظمة الحاكمة» وهي تهمة نقيضة للواقع تماماً، كما أن التهم الأخرى إزاء الآخرين مخالفة للواقع حيث أن «المواقع المرجعية العليا» هي التي تتعامل مع هذه الأنظمة كل على طريقته، وبالتالي تقلب التهمة وترمى على من يراد استهدافه في سياق هذه الصراعات من الرموز الثورية «الفقهية» النظيفة التي أثبتت الوقائع أنها عاشت حياتها تكابد وتعاني حتى في واقعها المعاشي ـ المالي( 7).... وترفض عروض الأنظمة المالية.. نعود لنقول لماذا لم يصدر البغدادي بياناً توضيحياً حول خلفيات فتواه تلك وهو الذي عرف عنه أنه لم يخش أية سلطة إذا ما ارتبط الأمر بمثل ما ارتبط في توظيف السلطة لهذا «الفخ» الذي أوقعت البغدادي فيه ـ حسب رأيها ـ؟ بينما كانت السلطة ترى أنها أدت دورها ونجحت في نصب «الفخ» فإن البغدادي الذي لم يكن يخشى التوضيح ما كان يرى بما حصل «فخاً» وما كان يرى أن الموقف كله يحتاج إلى إيضاح خلفيات هذا «الفخ» وهذه «الفتوى»!! لا لأنها كما ورد في النصوص المارة الذكر غير موجهة ضد مهدي الحكيم وبأنها فتوى عامة... لا ليس لهذا السبب وحده وإنما البغدادي وجد نفسه في تلك اللحظة أمام خيارين ـ في أكثر الاحتمالات ـ خيار توضيح الخلفيات ـ خلفيات الفتوى ـ وخيار السكوت حول توظيف السلطة لها. وإذا ما أخذنا الأمر من الناحية الشرعية فإن خيار توضيح الخلفيات سيفهم على أنه تبرئة لساحة مهدي الحكيم من تهمة التجسس.. وهذا ما يخالف الواقع الذي كان معروفاً للجميع في تلك المرحلة وأكثر العارفين به هو السيد البغدادي، فقد يكون هنالك كلام حول كلمة أو مفردة «التجسس» إلا أن المسألة أكبر من مسألة الكلام حول المفردة في ظل واقع معروف ومعاش للقاصي والداني حول ارتباط «مرجعية» محسن الحكيم بشاه إيران وارتباط بعض أولاده به، لاسيما السيد مهدي الحكيم في تلك المرحلة.
السكوت من الرضا
البغدادي ـ الخميني
جاسوسية مهدي الحكيم
عاشت «حوزة النجف» في ظل جدل تلك المرحلة ووجود الإمام الخميني فيها، وموقف «المرجعيات» منه كثائر ضد شاه إيران. وكان البغدادي يكاد يكون الوحيد في النجف الذي لم يخش أية سلطة، لا سلطة العارفين* ولا سلطة البكر ـ صدام حسين في إبداء وقوفه العلني إلى جانب الإمام الخميني الثوري والدفاع عنه، لا بما ينسجم مع توجهات هذه الأنظمة السياسية التي أرادت أن تجعل من الإمام الخميني ورقة ضد الشاه، فان الإمام الخميني لم يسمح لأي من هذه الأنظمة أن يستخدمه ورقة في صراعه مع شاه إيران، بقدر ما هو استخدم الأنظمة كورقة لتمرير أهدافه في محاربة الشاه، والسيد البغدادي لم يكن دعمه واحتضانه الإمام الخميني من الطراز الذي يلبي حاجات سلطة ما بقدر ما كان هذا الدعم والاحتضان مؤذياً ومزعجاً لهذه السلطة ومنسجماً مع منهجه «الفقهي ـ الثوري»، ولا أحد بإمكانه أن يزوِّر هذه الحقائق لاسيما بعد نجاح ثورة الإمام الخميني.
إن دعم البغدادي «المنفرد» الإمام الخميني لم ينطلق أيضاً من خصومته مع الحكيم الذي كان ضد الخميني وحليف شاه إيران.. وإنما كان نابعاً من قناعاته الشرعية ومنهجه الخاص به.. والا فإن أبواب الشاه التي كانت مفتوحة ليس فقط لمحسن الحكيم وإنما لغيره من «المراجع»... كانت مفتوحة أمام البغدادي أيضاً لو أراد ذلك، والدليل الأقوى الذي يجعل من منهج السيد البغدادي منسجما مع المسؤولية الشرعية.. لا من منطلق «الصراعات المرجعية» هو أن أبواب الأنظمة العراقية بما فيها باب نظام البكر ـ صدام كان مفتوحاً أمام البغدادي لكي يواجه محسن الحكيم بعقلية «الصراعات الحوزوية» والتحالفات القصدية... لكن، بما أنه رفض الدخول من أبواب شاه إيران ومن أبواب الأنظمة العراقية بوجه محسن الحكيم المدعوم من شاه إيران، فإن وقوفه مع الإمام الخميني كان بالتأكيد ينطلق من المسؤولية الشرعية لا غير.
إن تاريخ البغدادي هذا مع الإمام الخميني لا يمكن لأحد أن يزوره ممن عاشوا تلك المرحلة بما فيهم خصومه الذين «اتهموه بالعمل مع الأنظمة» ظلماً وعدواناً فهم يغمزون ويلمزون في كتابتهم هذا التاريخ، لكنهم لم يجرؤوا إطلاقاً على فتح ملفاته لأنها ملفات أصبحت أكبر من التزوير بعدما حفظها، كتاريخ مكتوب، رجال الثورة الإسلامية بزعامة الإمام الخميني.
إذن، وفق هذه الخلفيات كلها التي حكمت علاقة البغدادي بالخميني على أساس الواجب الشرعي ومنهج البغدادي «الثوري» لا المنهج الصراعي «الحوزوي».. كان واضحاً أمام البغدادي أنَّ عليه ألاَّ يتعامل مع قضية «فتواه» بطريقة «الفخ» الذي رسمته السلطة له حسب اعتقاده من الناحية الشرعية أيضاً حتى وأن استغلها خصومه فهو إذا ما أصدر توضيحاً حول خلفيات هذه الفتوى فإن توضيحه يفهم من قبل الرأي عام بأنه «تبرئة» للسيد مهدي الحكيم.. وهذا ما يخالف الواقع الشائع المعروف في الوسط «الحوزوي» ويخالف الواجب الشرعي الملقى عليه. إذ كيف يعطي «صك براءة» لإنسان يعرف البغدادي علاقاته مع شاه إيران الذي كان عدواً لدوداً للإسلام ورموزه وثواره آنذاك؟ هل يوضح الخلفيات و«الفخ» السلطوي لكي لا يساء فهم فتواه وتوضيحها وتوظيفها حتى لو أدى ذلك به إلى مخالفة شرعية قد تنعكس على مسار الحركة الإسلامية في إيران، وقد تفهم على أنها إعطاء شرعية لعلاقات شاه إيران مع رموز «الحوزة» النجفية المرتبطة معه، وقد تترك أثراً حتى على المعارضة الإيرانية الإسلامية بزعامة الإمام الخميني المقيمة آنذاك في العراق.
إن أي توضيح من السيد محمد الحسني البغدادي آنذاك إزاء خلفيات تلك الفتوى واستغلالها وتوظيفها كان له آثار خطيرة فضلاً عن جانبها «الشرعي»... وعليه فإن إتباعه خيار السكوت كان يترجم مسؤوليته الشرعية وينسجم مع منهجه «الثوري الجهادي» وكان ينم عن وعي حساسية أي كلام «توضيحي» لـ «فتواه» وانعكاساته على واقع الحركة الإسلامية في إيران وزعاماتها الموجودة في العراق كما أنه ينم عن دقة في تشخيص الاستفادة أو عدمها بالنسبة لما يقول سواء كان شاه إيران أم من هو على ارتباط معه في العراق.
... في ظل هذين الخيارين لمحمد الحسني البغدادي أمام «فخ» السلطة لأخذ الفتوى منه وتوظيفها في ما بعد.. خيار السكوت على توظيف السلطة هذه الفتوى وبالتالي إشكالياتها للاستفادة منها.. وخيار توضيح خلفيات هذهِ الفتوى التي أسهبنا في إشكالياتها كان لابد للبغدادي أن يفضل خيار السكوت على خيار التوضيح، فبالإضافة إلى مضاره ومحاذيره التي مررنا عليها... فإنه يبدو خياراً غير ذي منطق لأسباب عديدة أيضاً.. فإذا ما كان المرجع الأعلى نفسه والد مهدي الحكيم حياً فمن الأولى أن يمارس هذا «المرجع الأعلى» دوره وسلطته وهالته «الدينية» في وجه السلطة لاسيما وأن توجيه الضربة له من خلال اتهام ولده بالتجسس لم يأت من فراغ في مثل تلك المرحلة.. وإنما جاء بعد أحداث مشهورة متوجة بسفر السيد محسن الحكيم إلى بغداد لقيادة فعل ما ضد السلطة آنذاك..
... وكان جزء من الأمة حاضراً إلى جانب هذه «المرجعية» والدفاع عنها... وعندما انتهت تلك الأحداث المعروفة بنكسة كبرى لـ «مرجعية الحكيم»، وانعكست إحباطاً لدى شرائح من الأمة وجد النظام الحاكم في حينها الفرصة سانحة لكي يوجه ضربته الأقسى لهذه «المرجعية» من خلال اتهام مهدي الحكيم بالتجسس... وقطعاً أن السيد محمد الحسني البغدادي والإمام الخميني وغيرهم كانوا سيقفون بوجه السلطة لولا تراجع السيد الحكيم... قطعاً إنهم سيطوون ملف الماضي الصراعي مع السيد محسن الحكيم وسيقفون إلى جانبه لو كان الأخير استغل حضور الأمة من جانب وضعف السلطة من جانب آخر، لكن لأن شخصية السيد محسن الحكيم، كما وصفناها في أكثر من مكان، شخصية مترددة، فكان الرهان عليها صعباً لكي تستغل مثل تلك الفرصة، فهي مرجعية ضيعت قبل ذلك فرصاً أكبر وكان تحركها السياسي مشروطاً ومرتبطاً بالخارج الشاهنشاهي قبل تلك السلطة.. وبالتالي فإنه لا محمد الحسني البغدادي كان يرى بأن السيد محسن الحكيم سيستثمر تلك الفرصة في ظل معرفته الدقيقة لشخصيته وصداقته الشبابية القديمة له ولا الإمام الخميني كان يرى فيه مؤهلاً لمواصلة المشوار... ولذا فإن الاثنين، البغدادي والخميني، كانا يدركان تماماً بأن شخصية السيد الحكيم غير قادرة على استثمار أية فرصة... فمثلما أن للبغدادي قصصاً وتجارب معه فإن للإمام الخميني قصة وتجربة مريرة معه أيضاً.. وعليه كان قدرهما أن يتجرعا ألماً جديداً وهما شاهدان على مرحلة تجرُّ العراق إلى ويلات وويلات لاحقة... ولذا فإن سكوت البغدادي على تلك الفتوى الالتباسية الذي كان يرى فيه أيضاً درساً لمن يتعظ لاحقاً لمن تحدثهم أنفسهم بمواصلة الارتباط بالخارج عبر شاه إيران توج بسكوت ثان غير التباسي ومغاير عن السكوت الأول وهو سكوت الإمام الخميني على اتهام السلطة مهدي الحكيم بالتجسس.. وعدم الدفاع عنه... فسكوت الخميني له دلالات خطيرة وهي الأخرى غير نابعة من موقف الحكيم منه في العراق ولا من علاقة الأخير بشاه إيران... وإنما هي نابعة أيضاً من موقفه الشرعي الذي قدره على ضوء فهمه هو الآخر لطابع التردد في شخصية السيد محسن الحكيم الذي أدى إلى ما أدى إليه من تأثيرات مرعبة على مسار الحركة الإسلامية في كل من العراق وإيران.
البغدادي قيد المساءلة
... نعم إن الكلام النقدي عن السيد محمد الحسني البغدادي لا يندرج في إطار فتواه تلك التي كان السكوت فيها هو السكوت الصح الذي يعبر عن منهجه «الثوري» كما عبر عنه بوقوفه المشهود مع الإمام الخميني، وبسيرته الذاتية الشخصية، وببعض كتاباته لاسيما كتابه المشهور «وجوب النهضة»... إلا أن ما يمكن أن يثار من نقد حول هذا «المنهج الثوري» هو «السكوت النقيض» أو «السكوت الأصل» في مسار حياة السيد محمد الحسني البغدادي، وهي حياة حافلة وطويلة عايشت عهوداً سياسية متعددة في العراق كما عايشت أنماطاً من أطوار «المرجعيات العليا» ثم عاشت صخب «الحوزة النجفية». و«ثورية» البغدادي التي تحدثنا عنها، التي عكستها مجمل كتاباته ومواقفه وجرأته ونظافته ترجمت استثناءً «ميدانياً»... فقد طغى على حياته واقع العزلة «النسبية» إزاء الانحرافات التي عايشها «حوزوياً» و«سياسياً» أو «العزلة الاجتماعية» الممزوجة بصراحته(8) في كشف هذا الواقع إلا أنها «صراحة ديوان» لا صراحة «درس حوزوي» أو «درس فقهي» أو «بحث خارج» يعطيها صفة الشمولية ويحولها إلى «صراع فقهي» ايجابي مقابل «دروس وبحوث الآخرين» لكي تشكل ظاهرة لها امتدادها الوطني، فالبغدادي بحكم صراحته المعروفة ووطنيته التي لا غبار عليها وكونه ضليعاً في «الفقه التقليدي» كان قادراً على كسر طوق الحصار المفروض عليه، وأن يواجه التهم الكاذبة التي تطعنه وتطعن كل الخط الرموزي الثوري المعرفي.. البغدادي بحكم هذه العوامل والصفات وأخرى غيرها كان قادراً على إيجاد ظاهرة لـ «البحث الخارج» ذات الجدل الذي يوازن كثيراً من جدل «الدروس الفقهية» التقليدية السطحية... فهو يملك كل أدوات هذه الظاهرة التي كان بإمكانها أن تحد من سلبيات «حوزة النجف» على أكثر من صعيد...
... إلا أن عدم تصديه لهذه الظاهرة لا يعود فقط إلى عامل الأموال الذي حاصر «المرجعيات الثورية» كلها... بل إلى عوامل إحباط أخرى... وربما عوامل «معرفية ـ فقهية» إشكالية جعلته متردداً في الإقدام على ذلك.. وقد مررنا في كتابنا «صناعة العقول» على رأي البغدادي الذي يرى في «التقليد» أنْ لا دليل على «وجوبه الشرعي» أو أنه «لا أصل له» ـ حسب عبارته ـ كمبنى معرفي ساد عبر التاريخ في سياق نظام إسلامي معرفي بشري موروث، وإذا ما أضيف إلى رأيه هذا آراء أخرى حول «علم أصول الفقه».. و«الفقه» والـ «الأعلمية» ومجالات أخرى يمكن القول بأنه كان يعيش صراعاً معرفياً داخلياً سيتحول إلى عوامل إحباط له يدفعه إلى عدم الاهتمام بـ «طبع رسالة عملية» جادة أو التصدي لمثل تلك الظاهرة ـ «البحث الخارج» ـ الذي يمكن له أن يوازن بعمقه «المعرفي الكلاسيكي» بحوثاً سطحية كانت تملأ مساجد النجف...
إن السيد محمد الحسني البغدادي كان «مدركاً» خلل النظام المعرفي البشري الديني الموروث وصراعه الذاتي انتهى به إلى ذلك «الإدراك».. وواقعه أبقاه في موقع «المراوحة» الميدانية، فلا هو كان مهيأً نفسياً لان يوظف صراحته وشجاعته وتقواه في وجه «أمراض الحوزة».. ولا كان في موقع العزلة التامة السلبية فاختار «الممكن» ـ من وجهة نظره ـ من موقع «مرجعي» له «رسالة عملية رمزية».. ومنهج «تفريغ» صراحته وألمه ونظافته كآمر بالمعروف وناه عن المنكر عبر «ندوته العلمية الشهيرة» وما تشهده من «نقاشات عالية المستوى» لكنها «ضيقة الدائرة» موازناً ذلك بما يكتبه عن «الفقه الجهادي» وبمساندته لما يراه صحيحاً ويصب في خدمة الإسلام كوقوفه المشهور مع الإمام الخميني في النجف الأشرف في وقت كان فيه الأخير يعيش عزله قاسية وحربا شعواء.
كان من الممكن للبغدادي أن لا يقضي حياته في هذا الموقع «الممكن» الذي ارتآه أو استقر عليه وكانت صراحته وشجاعته ونظافته و«أعلميته» تؤهله للتفكير في انتزاع فرص أو ايجاد ممكنات تؤثر في مسار «الحوزة النجفية» وتقتحم الواقع السياسي للسلطة والأمة.. لو انه استطاع أن يتجاوز رتابة الموروث المستقر في عقله حول «علاقة الفقيه بالسلطة»، إذ لم يكن قدراً للبغدادي أن «يقاطع» الأنظمة السياسية أو يتعاطى معها بـ «حذر» في بعض المنعطفات التي يرى لزاماً عليه أن يتدخل فيها.. كما لم يكن قدراً عليه أن يقود مواجهة علنية ضد هذه الأنظمة التي اتهم ظلماً وعدواناً بأنه يتعامل معها، والتي شكلت قيداً نفسياً إضافياً عليه في هذا المجال. وكان مفروضاً له أن يوظف صراحته وشجاعته و«أعلميته» ويكسر الأطواق التي فرضت عليه وأن يفكر بإيجاد مؤثر سياسي محلي على «الحوزة» النجفية وأن لا يتركها تحت تأثير شاه إيران، وينزل إلى العمل في الميدان وينتزع فرصا، وهذا ما لم يفعله، وما يمكن أن يكون مجالاً لنقد السيد محمد الحسني البغدادي فقد ضاعت صراحته وشجاعته و«أعلميته» ودفعت الأمة ثمن ضياعها غالياً.
وإذا كان آخرون غيره قد اقتحموا الميدان دون أنْ يؤثروا التأثير المطلوب، فإن «عروبة» أو بالأحرى «عراقية» البغدادي المحضة كان بإمكانها أن تضاف إلى مكونات شخصيته وتجعل من نمط تأثيره في الواقع أكبر من تأثير الآخرين، كما أن موقعه النجفي يمكن أن يضاف إلى مكونات شخصيته تلك كعامل آخر، ويمكن أن يكون عامل قوة له لا عامل ضعف، إذ إن موقعية النجف وجدلها «الحوزوي» يغاير واقع كربلاء وواقع الكاظمية كأماكن مقدسة وحواضن ثانوية لـ «المرجعية».
إذ بخلاف ما كان يرى من أن وجوده في النجف الأشرف كان يشكل قيداً على تحركه انطلاقاً من وعيه الحاد باستهداف النجف الخارجي والداخلي الاستثنائي التي تجعل من مهمة التصدي لدور ما «أمراً مستحيلاً».. كانت وجهة نظر ولده السيد كاظم الحسني البغدادي بإمكانية كسر والده الأطواق المفروضة عليه وعلى النجف الأشرف وإمكانية قيامه بدور ما... وربما استسلام البغدادي ـ الكبير ـ بقناعته المارة الذكر هو من وضع السيد كاظم الحسني البغدادي في موقع «ردة الفعل» على الواقع «الحوزوي» السائد و«التمرد» عليه لكن أيضاً دون تخطيط... لأَن عدم استجابة والده له تجعله فاقداً عناصر هذا التخطيط... ومهما يكن من أمر فمع وجهة نظره بتحريك والده في النجف الأشرف بغض النظر عن آليات هذا التحريك التي أشرنا إليها فإن البغدادي (الابن) انتهت به الحال إلى أن يعمل بـ «ردة فعل» في أحيان كثيرة وبما يجعل من هذه الآليات مرفوضة وأول رافضيها هو البغدادي ـ الكبير ـ.
مقتطفات من كتاب
أنبياء وأصنام
حوزة الأرض والوطن
حوزة الوافدين الى الوطن
عادل رؤوف
ص:127 ط: المركز العراقي للإعلام والدراسات 2009م