الحوار الخامس والأربعون مع وكالة الأنباء الإسلامية العراقية بتاريخ تشرين الثاني 2007م
الحوار الخامس والأربعون
مع وكالة الأنباء الإسلامية العراقية بتاريخ تشرين الثاني 2007م
نبَّه سماحة آية الله العظمى السيد أحمد الحسني البغدادي إلى مخاطر المخططات الأميركية و الصهيونية عبرما يسمى بـ «قضية» مكافحة الإرهاب الدولي، التي أصبحت من الأساطير المصطنعة، مؤكدا أن الأمة المسلمة اليوم أمام فرصة تاريخية حضارية للوحدة المتراصة.
وأضاف: إِنَّ الولايات المتحدة الأميركية تخشى صعود أي نموذج من الإسلام السياسي الثوري الراديكالي، وليصبح هو الأقوى فعالية على المستوى العالمي.
ولفت الى أنَّ المصالحة الوطنية بين الفرقاء لاتتحقق في ظل جدران العزل الطائفي، والميليشيات، و مساندة فرق الموت.
واعتبر سماحته: إقامةَ القواعد الأميركية في العراق احتلالاً كافراً فاقداً العواصم الخمس المشهورة.
وشدَّدَ على أهمية ألاَّ يقوم تعاون مع القابعين في المنطقة الخضراء، داعيا إلى قول كلمة الحق، لأن عدم اطلاقها يعد (خوفاً) و(تواطؤاً) و(سكوتاً)، لأجل فضح مخطط المحتل وأعوانه الرامي إلى خدمة المشاريع العولمية المتوحشة في المنطقة.
وقال: لقد سُئِّلَ بول بريمر حول علاقته مع السيد السيستاني فأجاب «لايرغب بلقاءات مباشرة معنا وإنما يريدها سرا لا علانية»!!..
ولا يمكن أن يمر ذكر العراق دون أن يُذْكَرَ سماحة السيد البغدادي بوصفه أحد ابرز المراجع الدينية في بلاد الرافدين الأعز، وأَحد أبرز الشخصيات التي تناهض المشروعَ الأمريكي الغاشم وتقاومه في العراق، وفي المنطقة. وهو أكثر الشخصيات بروزا على الصعيدين السياسي والإسلامي. وعلى الرغم من ذلك، فهو لا يطمح إلى أيِّ منصب سياسي مهما يكن في العراق، إلا أنَّهُ من خلال منهجه الثوري وفكره الإسلامي المتنور، يحاول أن يصوغ طريقة جديدة لنمط التفكير العراقي الموروث بعيدا عن الحوزة الدينية الرجعية، وفي نظر المفكرين العرب والأجانب يعد أكثر النقاد الراديكاليين على الإطلاق نقداً لسلوك رجال الحوزة الساكتة، ويمثل بحق أهم ظاهرة ثورية (شيعية) عراقية اليوم.
على ضوء هذا كله أجرت «وكالة الأخبار الإسلامية العراقية»* بتاريخ 30 تشرين الثاني 2007 م، حواراً شاملا مع الفقية المرجع أحمد الحسني البغدادي في مكتبه بدمشق، سلَّط فيه الضوء على رؤيته حول قضايا الساعة، مشددا على قناعاته الثابتة بانتصار الأمة على الولايات المتحدة الأميركية، مؤكدا على رفض العملية السياسية في ظل الاحتلال بوصفها تؤسس للتجاذبات العرقية والإثنية. وهذا هو نص الحوار:
* هناك أقوال متضاربة حول توقيت مكافحة الإرهاب الدولي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.. هل هي حرب دينية، أم سياسية ؟..
** قضية مكافحة الإرهاب الدولي في تصوري أسطورة مصطنعة، وليست صادقة للدفاع عن الاستضعاف في العالم، ولا تخلو من الكذب والتزوير والتضليل بالنسبة للمستضعفين.. بالأمس كانت الحرب الضروس على خطورة وباء انتشار المادية الماركسية اللينينية الهدامة أبان الحرب الباردة.. واليوم هذا السيناريو، وهذه الأسطورة المصطنعة (بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وانفراط حلف وارسو) تحولت الحرب على الإرهاب والإرهابيين من خلال مقومات حقيقية هي ما يعرف اليوم بوسائل الإعلام الثلاث الرئيسية... المقروءة والمسموعة والمرئية، ولاسيما في الصحف الأميركية «الواشنطن بوست نموذجا» والبريطانية مثل «الديلي تلغراف» والإدارة الأميركية، وبعض المهيمنين في الاتحاد الأوروبي، وبالتالي تلقفتها النخب الفكرية والثقافية العربية، للأسف الأسيف، للدفاع عن صدقية هذه الأساطير، وبوجه خاص لدى المصدومين والمشككين وتصورات الناس العاديين، بل ساهمت بأساليب جديدة، وأطروحات مستحدثة لا حصر لها في بناء الصور الديماغوجية، بواسطة الدعاية الغوغائية عن مكافحة الإرهاب والإرهابيين.. هذا هو التصور الأول، أما التصور الثاني بالنسبة لنا، كإسلاميين، مايسمَّى بــ«الحرب على الإرهاب» تصوراتنا وحساباتنا الآنية والمستقبلية ما هي إلا حرب يشنَّها الغرب الامبريالي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية على الشريعة الإسلامية الخاتمة، وعلى معظم الجماعات الإسلامية التي تمارس المقاومة السياسية، أو المقاومة العملياتية الميدانية، كما كل الحركات التي تناضل لتحرير بلادها من النفوذ الامبريالي بوصمها بأنها أعمال إرهابية إجرامية، ولنتأمل إلى أي مدى صار دعم فلسطين والعراق في انتفاضتهما وجهادهما المشروع لاسترداد ذاتهما، والدفاع عن حقوقهما يعتبر عملاً خارجاً عن القانون، وغير مشروع في قاموس السياسية الغربية والأميركية الحديثة !!..
الخوف والهاجس الاستشراقي التوراتي الإفرنجي الأزلي الثابت القديم ذاته هو مصدر لخوف وهاجس جديد ، ولاسيما لدى تيار المحافظين الجدد اليمينيين الراديكاليين بشماعة مكافحة الإرهاب الإسلامي، الذي يزعمون أنه يستهدف تهديد الأمن القومي الأمريكي والغربي، أو نسف بناه الاجتماعية والتحتية بالمرة، ما حدث بالفعل في الحرب الاستباقية ضد أفغانستان بعد أحداث الحادي عشر من أيلول ـ سبتمبر عام 2001م، وبذلك ظن المحافظون الجدد أنهم حققوا بـ " الفعل " انتصاراً كاسحا، وإنجازا عظيما، وتغييرا جوهريا في معادلة الصراع والمواجهة، وكذلك في فن المراوغة القاسية والتدمير المنهجي لتعرية الجهاد الإسلامي بقسميه، وربما نسفه، عبر النموذج الإسلامي (المعتدل) والمكافح من أجل تحقيق الإستراتيجية الأميركية في المنطقة التي ترغبُ في إعادة تشكيلها وترتيبها بما يحمي إحدى ركائز أمنها القومي «إسرائيل» أولا وأخيرا في المنطقة العربية ،التى تعيش مرحلة هزيمة حضارية، وانكسارا رسميا محزنا أمام غطرسة واستكبار عولمي رأسمالي ربوي أمريكي متوحش. وفي هذا الإطار تخشى أميركا صعود هذا النموذج من الإسلام السياسي الثوري الراديكالي، وتحس أنه الأقوى فاعلية على المستوى العالمي باعتباره يؤمن بعقيدة الجهاد الإسلامي السياسي المسلح، بوصفه الطريق الوحيد الفريد لتحرير الإنسان، نوع الإنسان، من الاستعمار الأمريكي، والاستيطان الإسرائيلي الصهيوني.
* انسحب معظم ما يسمى بـ «قوات التحالف» مع الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة.. والآن انسحبت القوات البريطانية، وسوف تنسحب أميركا بالتدريج من العراق، على أن تبقى لها قواعد عسكرية تجثم على ثرى العراق..
اسأل: هل يجوز من وجهة نظر إسلامية بقاؤها بعد انكشاف تقرير بيترايوس ــ كروكر، الذي يؤكد استمرار الاحتلال، والتحضير لإقامة قواعد عسكرية طويلة الأمد في العراق.. أي عكس ما ذهب إليه تقرير بيكر ــ هاملتون من خطورة دموية المأزق الأميركي في العراق ؟..
** من وجهة نظر إسلامية، لا يكفي انسحاب القوات الأميركيةـ بل يجب ايقاف بناء القواعد العسكرية فوراً، وحتى إن سلِّم بعض منها الى ما يسمى بـ«الحكومة العراقية» الموالية للولايات المتحدة الأميركية.
* ويقال إن هناك قواعد دائمة... أليس كذلك؟
** نعم..هي قيد الإنشاء، وتقدر بأربع عشرة قاعدة، تضاف الى القواعد الخمس الكبرى الموجودة حاليا، وهي قواعد مترامية الأطراف ترقى إلى حجم مدن حقيقية، ما يؤكد ذلك فعلا على أرض الواقع هو ما نشاهده في بغداد، أي البناء الذي يجري تشييده لمجمع السفارة الأميركية الجديد في إمارة المنطقة الخضراء، حيث تقدر كلفته بما لا يقل عن مليار دولار، ليشكِّلَ مدينة صغيرة فيها ثلاثمائة دار، وثكنات كبيرة لمشاة البحرية، وإحدى وثلاثون بناية، ولهذه المدينة منظومتها الخاصة بها من الكهرباء والماء والمجاري، وبالنسبة لنا تعتبر هذه احتلالاً أجنبياً كافراً فاقداً العواصم الخمس المشهورة، ونحن ندرك خطورة المؤامرة، فما دامت أميركا تبقي على قواعدها العسكرية في وطننا الأعز، فإنَّ أيَّ سلطة عراقية مرتبطة بالاحتلال لا تملك بـ«الفعل» إستقلالية القرار الوطني المستقل مع بقاء الاحتلال من خلال قواعد عسكرية دائمة، وتغدو هذه السلطة العراقية المزعومة في مرمى الطائرات واجتياح الدبابات.
هذا الدرس يجب ألاَّ ننساه إطلاقا وهو أمر تعلمناه بالرؤية الوجدانية والتجريبية في تاريخ الأمم والشعوب المستضعفة قديما وحديثا، وكفاك في هذه الأطروحة ما شاهدناه بعد عقود من إعلان الإنجليز استقلال العراق، فقد احتفظت بريطانيا بقواعد دائمة نائية، بمقدورها من هنا أن تسيطر على حكومات عراقية أو تطيح بها متى شاءت ـ مثل حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941م ـ وما لم يتم الانسحاب الأميركي، وإنهاء قواعده العسكرية من أرض الرافدين، فالمقاومة مستمرة، وهي الطريق الوحيد لانتشال أهلنا من التشريد، والتهجير، والاغتصاب، والانفلات، والابتزاز، وإرهاب الدولة، وسياسة الأرض المحروقة، وكثير غيرها من الجرائم، وبالتالي يتحقق الاستقلال الوطني الحقيقي ذو السيادة، وهذا هو ليس خيارا من بين مجموعة خيارات، بل هو خيار وحيد فريد.. هذا ما أكدناه مرارا وتكرارا منذ احتلال بغداد في التاسع من نيسان المشؤوم 2003م.
* اسأل حينما قرأت مذكرات بول بريمر: «عام قضيته في العراق لبناء غد مرجو» حول العراق..هل من جديد فيها بعد ان أثارت هذه المذكرات اللغط بين السياسيين العرب والأجانب المهتمين بالشأن العراقي.. وأصبح الرد عليها سلبا أو إيجابا في وقت لم يطلع فيه الكثير من العراقيين عليه ؟..
** أرجو أن تنقل كلامي بأمانة تاريخية صادقة، لأن الجواب على هذا السؤال حساس للغاية.. في اعتقادي... إن هذه المذكرات البريمرية مهمة جدا لكشف قضايا العراق وأحداثه في ظل الاحتلال الأمريكي المباشر.. وكيف تعامل، أي بريمر، مع اتباعه من العراقيين سلبا وإيجابا، والأنكى من ذلك أنه تكلم شيئاً كثيراً عن السيد علي السيستاني حول العديد من القضايا المثيرة للجدل، وذكر ثلاثة كانوا قنوات سرية شكَّلوا أعضاء ارتباط بينه وبين السيد السيستاني، هم عماد ضياء (الخرسان)، وموفق الربيعي، وحسين اسماعيل الصدر، وكان لدى بريمر مستشار سياسي مخضرم لا أتذكر اسمه حاليا، سأله حول علاقته بالسيستاني، فأجابه بما معناه: السيد السيستاني لا يرغب بلقاءات مباشرة معنا، وإنما يريدها سرا لا علانية بوصفها تسيء الى سمعته ومصداقيته لدى مقلديه، لكنه في الواقع متعاون معنا، ويدعم مشروعنا، بل كلَّف اتباعَهُ بالتنسيق معنا، بل إنَّ بريمر تحدَّث عن عشرات الرسائل التحريرية بينه وبين السيستاني حول قضايا كثيرة عن العراق، والمنطقة.
*بالنسبة إلى الأسماء الثلاثة التي ذكرْتَ أنَّها وردت في هذه المذكرات يبدو لي، وربما أكون على خطأ... إِنَّ هؤلاء يعتبرون السيستاني مرجعهم الروحي، وحين ينقلون هذه الرسائل المتبادلة يضعون السيستاني في صورة كاملة عن كلِّ ما يجري في الساحة العراقية ؟..
** ما استعرضته في الواقع لا يتضمن أية إدانة شخصية للسيد السيستاني، لأني لا أبحث عن خصومات أو عداوات، بل إني من طلاب الوحدة والتعاون، وكل ما أريده هو استئناف العزة والكرامة والسيادة لأمتنا ووطننا، وفي سبيل هذا الهدف الأسمى ليس ما أقوله إلا انطلاقا من الشعور بالمرارة حينما قرأت هذه الادعاءات سواء أكانت صدقا أم كذبا!!.. لكن حتى هذه اللحظات لم أسمع من السيستاني شخصياً تكذيباً لهذه المزاعم الخطيرة والمنافية ـ على ما أريد لمقام المرجعية الرشيدة، ولا ندري ماذا يقول الإنسان المسلم المعاصر بعد أن يطلع على ذلك، وأنت تعلم، يا أخي، أن التاريخ لا يرحم أحدا اطلاقاً.
* اليوم ينتقدك كثيرون ممن يسمعونك في الوسط الشيعي، وسيغضبون عليك غضبا شديدا بوصفك تتعاطف مع الوسط السني ؟..
** أنا سعيد انك أثرت هذا السؤال الاستفهامي.. احتلال العراق قام به كافر مستكبر فاقدٌ العواصم الخمس المشهورة، وكان موقف فقهاء النجف وغيرهم من الاحتلال الأمريكي، بين «خائف» أو «ساكت» أو «متواطئ سرا» أو «متواطيءٌ علنا»!!..
إذن.. ماذا تتوقع مني؟... الصمت المطبق في مواجهة احتلال غير شرعي، وغير قانوني، من خلال إطلاقات الأدلة القرآنية الكريمة، والأحاديث الصحيحة وعموماتها الدالة على وجوب امتنانه تعالى، بكف أيدي الكافرين على المسلمين، والأدلة الدالة على وجوب النهي عن موالاة الكافرين، والأدلة الدالة على وجوب نفي سبيل الكافرين، على المسلمين، والأدلة الدالة على وجوب النهي عن المنكر، والأدلة الدالة على وجوب حرمة التعاون والتنسيق مع الكافرين.. وكثير غيرها من الأدلة التي تؤكد حرمة التعاون والتنسيق مع الكافرين.. وكثير غيرها من الأدلة التي تؤكد على عدم مشروعية سيادة الكافرين وإمرتهم على المسلمين، حتى لو لم يؤدوا ضررا بشريعتنا وعقيدتنا وتراثنا، بل حتى لو أعطوا حرية غير المنقوصةٍ لممارسة طقوسنا وشعائرنا... هذه مسائل بدهية لا تحتاج إلى تفسير أو دليل.
* سماحة السيد... آيات السلم مع الكافرين والمشركين كثيرة توجب التعامل معهم بشكل أو بآخر.. كيف تعلق على ذلك ؟!..
** آيات السلم تؤَّول إلى محامل من خلال تأكيدات إطلاقات الأدلة التشريعية وعموماتها في وجوب مقاتلة الكافرين والمشركين، هذا أولا.. وثانيا: أنا صرحت على هامش المؤتمر القومي العربي السادس عشر في الجزائر في فندق الأوراسي في نيسان 2005م لصحيفة «السفير» اللبنانية ـ على سبيل الدلالة والتشبيه «لو زنى شيخ كبير في أمهِ بالكعبة المشرفة، وهو محدودب الظهر، رجله في قبره، وهو يتحسس بالآم المستضعفين لهو أفضل من فقيه أو مرجع ديني، شيعي أو سني، متصد لقيادة الأمة، لم يفت حتى الآن في وجوب طرد المحتلين الكافرين!.. لأَنَّ هذا السكوت المطبق من وجهة شرعية من أعظم المخالفات الإسلامية، وفيه مردودات سلبية خطيرة على تضليل الأمة، وعلى ثوابتها السامية».. وثالثا: يحق لي من منظور إسلامي أن أتعاون وأن أنسق مع أي مذهب، أو طيف، أو غيرهما يناهض الاحتلال في العراق، ومشاريعه العولمية المتوحشة في المنطقة، ثم أنا لا أخشى أحداً في هذا الكون كله، إلا الله الواحد القهار..أنا تجاوزت العقد السادس من عمري، كيف أخشى غضب هؤلاء الذين يتعاونون وينسقون مع أميركا، وأنا الذي انتظر في يوم من الأيام أن استشهد برصاصة حية ملعونة غادرة في الشارع، أو المكتب، أو في زنزانات السجون الرهيبة.
*في ظل التطورات الساخنة، التي تمر بها المنطقة.. يأتي قرار مجلس الشيوخ الأمريكي القاضي بتقسيم العراق... لماذا؟..
** هذا القرار خروج سافر على القوانين والأعراف الدولية، وعدم احترام سيادة بلد عضو مؤسس في الجامعة العربية، والأمم المتحدة. إن قرار التقسيم غير ملزم، جاء بسبب فشل مشروع الولايات المتحدة الأميركية في العراق، الذي غطس في وحل الدمار والبوار والأحزان.. وخلق مشاكل عديدة لها، وجعل الأنظمة غير «الديمقراطية» تحتل مكانة أكبر بعد الشعارات الأميركية حتى باتت ترضى بحكومات عرقية واثنية شمولية وفوقية هنا وهناك، بدلاً من النموذج الديمقراطي الأميركي الذي كانت تسعى إليه، وذلك لكي تتخلص وتنقذ ذاتها منها، تلك الورطة التي وقعت فيها نتيجة غزوها العراق، ومن هذا المنطلق نفذت الولايات المتحدة الأميركية المخطط الصهيوني السري، الذي يستهدف تفتيت دول الجوار الجغرافي، وتمزيقها إلى كانتونات ودويلات ضعيفة متناحرة متقاتلة في سبيل أن تبقى إسرائيل هي الأقوى في المنطقة لوجستياًً وعسكرياً واقتصادياً وسياسيا وأمنياً.
*ما العمل.. إذن ؟
** كلنا يجب أن نعرف سيناريو تقسيم المُقَسَّمِ وتجزئة المُجَزَئ في ضوء التجاذبات الإقليمية والدولية، التي لا تنتهي من خلال العملية السياسية. وما لم نكافح لإستئناف الحياة الثورية الإسلامية، فإِنَّ العراق سوف يسقط نحو الانحدار باتجاه الدعوات القطرية والمذهبية والعنصرية ولا يمكن إجهاض هذه الدعوات إلا بانسحاب القوات الأجنبية انسحاباً كاملاً من ارض الرافدين فورا، وهذا بالطبع لا يتحقق إلا من خلال وحدة شعبنا، وتماسك نسيجه الاجتماعي، ومن خلال الصمود والتصدي والمقاومة السياسية منها والعملياتية الميدانية... هذه هي الحقيقة الوطنية التي لا يمكن إنكارها.
*مشروع المصالحة الوطنية بين العراقيين.. هل تنجح في تصورك في ظل هذه الأزمة العراقية المتفاقمة ؟..
** يمكن أن أجيب بصورة تساؤلات حتى ينكشف السيناريو على حقيقته:
كيف تنجح مصالحة وطنية بين الفرقاء، وهناك احتلال أميركي ـ بريطاني مباشر على وطن ذي سيادة مستقلة ؟!..
كيف تنجح مصالحة وطنية بين الفرقاء والاميركان واتباعهم يوظفون الطائفية وجذروها، ويساندون الميليشيات بمختلف اتجاهاتها، وينشئون فرق موتٍ تقتل على الهوية.. ويشيدون جداراً عازلاً بين السنة والشيعة في المدينة الواحدة المتجانسة؟!..
كيف تنجح مصالحة وطنية بين الفرقاء.. وليس هناك ثقة متبادلة، ولاحوار شفاف صادق، لا يستثني أحداً من فصائل العمل الوطني والإسلامي السياسي والمسلح، بل ليس هناك وسيط حيادي عادل بين الجانبين ؟!..
وهل تصدق في يوم من الأيام أن تتحقق مصالحة وطنية بين الفرقاء.. وكثيرون من معارضي المشروع الأمريكي مطاردون أو مخطوفون أو معتقلون أو مفصولون، بل كيف تتحق المصالحة الوطنية ومن يدعون إليها هم من دعاة الفتنة، الساعين إلى تحقيق تركيب صورة تطابق كانتونات، أو فيدراليات، أو كونفدراليات عرقية وإثنية دون تدمير نقاط التماس، التي ذكرتها مراراً وتكراراً ـ إلا بما يعني تقسيم العراق وتدميره إمتدادا للحرب الأهلية، التي لا تحمد عقباها؟!..
وهل يمكن أن تتحقق المصالحة الوطنية والصراع لايزال قائماً بين الحق واللاحق، ولا يمكن أن يكون هناك صراع بين حقين، بل طلاق بائن بينهما، والشيطان لايمكن أن يكون قاضيا؟!..
* سماحة الفقيه المرجع... من حقنا أن نعترض على هذه التساؤلات.. إذن.. ما السبيل ؟!..
** نعم..يمكن حل الأزمة العراقية، وتحقيق المصالحة الوطنية وفرض معادلة شراكة (حقيقية) في السلطة، وفي توازنات السلطة، لكن حل هذه الإشكالية لا يخضع للمنطق الأرسطي، بمعنى هذه أرض أو سماء لأن ذلك ينطلق من المنطق الجدلي السياسي، هو: وفق مشروع واحد، لا هو كردي، ولا هو تركماني، ولا هو شيعي، ولا هو سني، إِنَّه مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي تبشر به، وتدعو إلى تطبيقه الولايات المتحدة الأمريكية من خلال تقسيم ديمغرافي جغرافي، وإلغاء الهوية الوطنية والعروبية والإسلامية للمنطقة العربية والإسلامية برمتها في سبيل حماية أمن إسرائيل أولا، والهيمنة على آبار النفط ثانياً، وتطويق دول آسيا الوسطى واليابان ثالثاً، وتقوية علاقة الصداقة مع الدول العربية العميلة المسماة بــ«المعتدلة» رابعا، والحيلولة دون قيام أي نظام إسلامي أو عروبي يتمتع بالسيادة الكاملة، تكون لديه استراتيجيته وأجندته، هذه هي تجليات الأزمة العراقية، وهذه هي الحقيقة الواقعة، التي يجب ألاَّ تغيب عن البال.
*هناك سؤال كبير في الشارع العربي والإسلامي لماذا فشل المشروع الأمريكي في العراق ؟.. وما هي أسباب فشل المشروع ؟.. وما هي أسباب فشل المقاومة الوطنية والإسلامية بديمومة البقاء، والاستمرار في تحرير المدن في تحريرهم للمدن العراقية كالنجف والفلوجة؟..
** نحن بإمكانياتنا المتواضعة، أفشلنا المشروع الأميركي في العراق، بل في المنطقة برمتها، من خلال صمود المقاومة الإسلامية وتصديها الأسطوري لجيش الاحتلال وإلحاق هزيمة به، وقع سيطرة المقاومة على الأرض في بعض المحافظات، إلاَّ أنها لا تقدر على كسب المعركة الفاصلة... إنها تجبر القوات الأميركية على الانسحاب، ويؤدي ذلك بالتالي إلى هروب أقسام مهمة من قطاعات الجيش والشرطة، التي شكلها الاحتلال، بسبب الأرض المكشوفة للسماء، لكن بسبب التفوق الكاسح في العدة والعدد، وفي معركة غير متكافئة افقياً وعمودياً من الطبيعي أن المعركة ستكون لصالح العدو المجرم. وفي تصوري أن الأسلوب الأمثل والأنجع الذي يأتي بمردودات إيجابية ناجحة هو أسلوب العمليات الميدانية، ما يسمى «حرب العصابات» التي تعتمد أساليب الكر والفر، بل إن حرب العصابات ألحقت بقوى الاحتلال البريطاني في البصرة هزيمة منكرة من خلال انسحابها المفاجئ المذعور، ذلك كله بعد صبر ومصابرة، وتوكلٍ على الله سبحانه وتعالى، وعلى تلك السواعد المتسلحة بالتقوى، والأفئدة الممتلئة ايماناً وعملاً صالحاً، والنفوس التي تعشق الشهادة وتمضي في طريق ذات الشوكة، ولقاء الله سبحانه وتعالى، والأنبياء والصديقين والصالحين والشهداء الأبرار، وهذه هي سنة الله لا تتبدل ولا تتغير.
*سماحة السيد... ما هو مشروعك الآني والمستقبلي في العراق ؟
**أن يخرج الاحتلال الأجنبي نهائياً من أرض الرافدين الأشم.. كمقدمة لإزالة قواعده العسكرية كلها.. وبالتالي يتاح لكل أبناء العراق أن يقرروا مصيرهم بأَنْفسم من خلال إجراء انتخابات لمجالس المحافظات، وانتخابات لجمعية تأسيسية، مهمتها قبل كل شيء عملية صياغة دستور جديد تعرض على الشعب في إستفتاء عام، حيث يختار الشعب النظام الذي يرتأيه وتوافق عليه الأغلبية الساحقة إسلاميا أم علمانيا، أو ليبراليا.. ومن جهتي أن أبناء الأمة سيختارون النظام الإسلامي بوصفهم متدينين بالفطرة يعبر النظام الإسلامي عن هويتهم الوطنية الحضارية الأنبعاثية التاريخية الأصيلة، ولأنهم عاشوا معاناة الحكومة الفتنوية الرابعة، التي نصَّبتها الولايات المتحدة الأميركية، وقبلها الدول الشمولية الفوقية، منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921م.
* ظهرت على الساحة الإسلامية فتنة الصراعات المذهبية والطائفية والعشائرية والمناطقية والإقليمية.. كيف نستطيع أن نتصدى لكل هذا لنُفْشلَ مشروع الفتنة ؟..
** نحن نعيش مشروع فتنة بين حركتيْ «فتح» و«حماس» على أرض فلسطين.. وأصبحنا نعيش مشروعا للفتنة بين السنة والشيعة، وبين العرب والاكراد والتركمان في العراق، وبين العرب والبربر في الجزائر، وبين المسلمين والأقباط في مصر، وبين الإقليميين والعروبيين في لبنان.. ونعيش مخططا رهيبا مرعبا للصراع المحتدم بين الخندق المعتدل والمتطرف في النظام العربي والإسلامي الرسمي.. ونعيش في ظل دورِ انتقائي لجمهورية إيران الإسلامية، فهي تساند المقاومة والمواجهة في فلسطين ولبنان، وهي كذلك في تحالف استراتيجي مع سوريا في التصدي والصمود ضد أميركا وإسرائيل، بيد أنها في أرض الرافدين الأشم، وبمنظار الدول الإقليمية تؤيد العملية السياسية، وتعتبرها أمراً مقبولا وطنياً، ومقدمة لخروج المحتل الاجنبي، ولذا تجدها أول من بارك قيام مجلس الحكم الانتقالي، واعترفت بشرعيته التي أسسها المندوب السامي الأميركي «بول بريمر» على الرغم من أن مجلس الحكم صنيعة الاحتلال الأميركي البريطاني، يسانده، ويطالب ببقائه إلى أمد غير محدد تحت ذرائع متعددة، منها الاستجابة لاستحقاقات المرحلة، والخضوع للواقعية السياسية والتوفيقية التي تقتضي ذلك، هذا صراع في غاية الخطورة والتعقيد، يكشف في أوجه تجلياته عن الخلاف بين قوى الاعتدال والتطرف، وبين الشيعة والسنة، ويعرِّض جميع الأطراف الإقليمية ومنجزاتها ومكتسباتها للدمار والبوار، ويستهدف جر المنطقة برمتها إلى أوضاع مرعبة، وبالتالي يخدم المصالح الأميركية، والأطماع التوسعية الاسرائيلية.
من هنا في هذه المقابلة.. لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بشكل تفصيلي، ودون هروبٍ ينبغي لنا، في رأي، أن نواجه هذه الفتنة، ونحاول وأدها من خلال عقد مزيد من الندوات الثقافية والفكرية فيما بيننا، يُسْهِمُ فيها باحثون ومثقفون ومنظِّرون لكي نرسم خططاً علمية، نستطيع من خلالها إيقاظ وعي الأمة وتعبئتها في مواجهة القاعدة الإمبريالية القذرة «فرق تسد» ومن خلالها العنوان الأولي بالعنوان الثانوي، حيث وظفت التناقض الرئيسي بالتناقض الثانوي لصالحها حتى ظهر العنوان الثانوي على أنه قاعدة رئيسية في القضايا الإقليمية والدولية.
* سماحة المرجع القائد... كلمة أخيرة توجهها إلى الأمة العربية والعالم الإسلامي..
** أوجه كلمتي إلى العرب والمسلمين كافة على اختلاف مذاهبهم وقومياتهم وألوانهم إِنَّ الواجب الإسلامي يحتم عليكم أن تتخذوا موقفا رساليا ثوريا حاسما في مواجهة العولمة الرأسمالية الربوية الأمريكية المتوحشة، إن كنتم مسلمين حقا، وتؤمنون بالله واليوم الآخر.
والسيناريو اليوم ـ لا سمح الله إذا قدر ـ في هذه المواجهة أن ينتصر المشروع التلمودي الصهيوني الأميركي في المنطقة، وفي العالم كله،عبر الحاق الهزيمة المنكرة بالمقاومة السياسية منها والعملياتية في فلسطين، أو في أفغانستان، أو في الشيشان،أو في كشمير،أو في لبنان، أو في العراق، فان الأوطان ستغرق في ذل العبودية، وفي شرك شريعة الغاب، وتفتيت الجغرافيا، والمجتمعات الإسلامية، وتكوين إقطاعيات وكانتونات على أسس إثنية وعرقية، وتحت ذرائع شتى أغلبها مفبرك من الدوائر الخاصة بالمؤسسة العسكرية الصهيونية.
واليوم..الأمة المسلمة أمام فرصة تاريخية حضارية للوحدة المتراصة، وتجاوز الجراح في الآلام والأحزان، والخلاص الأبدي من الحرب الأهلية الإثنية منها والعرقية، التي لا تحمد عقباها، لا على أرض الرافدين وحسب، وإنما في كل الأوطان العربية والإسلامية حيث سيلقى بحممها بلا حياء، ولا حرج، ولا مبالاة، ولا شفقة آدمية، ولا ينجى منها أحدٌ، وربما تصل في نهاية المطاف إلى اهتزاز السلم العالمي.
واليوم.. الأمة أمام فرصة إنسانية حضارية لإنجاز انتصار تاريخي عظيم على المشروع الامريكي الصهيوني وإنهائه في المنطقة وفي العالم كله. وأنا لم ولن أكونَ مبالغاً إذا قلت، إننا في أرض الرافدين الأشم كمقاومة إسلامية أسقطنا هذا المشروع، وقدمنا بإمكانياتنا المتواضعة نموذجاً لمجاهدين مناضلين أشداء على الكفار، واستطعنا أن نسقط مشروع الشرق الأوسط الكبير.
* سماحة آية الله العظمى السيد أحمد الحسني البغدادي شكراً جزيلا على هذا اللقاء، وعلى هذه الإيضاحات الهامة على ما يحدث في العراق بعد مرور خمس سنوات تقريبا على احتلاله، ونتمنى لكم التوفيق والنصر المبين، وتمنياتنا من خلالكم إلى شعب العراق العظيم.
** شكرا لكم والله يحفظكم.