الحوار السادس عشر مع صحيفة (الانديبندت اللندنية) بتاريخ 21 تموز 2004م

الحوار السادس عشر
مع صحيفة (الانديبندت اللندنية) بتاريخ 21 تموز 2004م
أجرى الحوار الخبير روبرت فيسك
أمام منزل آية الله السيد أحمد الحسني البغدادي ، حديقة صغيرة ، ودرجة الحرارة تبلغ (60) درجة مئوية.. في منزله مكتبة خاصة ، وضعت على رفوفها الآف المجلدات الإِسلامية والعلمية، والقانونية، والسياسية.
مراجع الشيعة (علماء الشيعة) معروفون بعدم (جرأتهم) في الكلام حول الأُمور الخارجية، على حد تعبيره، لكّنَّ.. السيد البغدادي يطرح كل ما يدور في ذهنه بجرأة وصراحة متناهيتين.
أدلى السيد البغدادي بقوله: إِنَّ الاميركان احتلوا العراق ، كجزء من مشروع ستراتيجي .. ولم ولن يغادروا العراق ، لأنهم غزوا هذا البلد الامين في سبيل نهب نفطه وثرواته الأُخرى .. حتى الحكومة الانتقالية المؤقتة التي نصبتها الادارة الاميركية تعلم كل العلم حقيقة نوايا الأَميركان في العراق ، وفي المنطقة ــ ولم يجتاحوا العراق في سبيل خلاص شعبه من الدكتاتورية والاستبداد.
والسيد البغدادي رجل وقور محترم، ومرجع موسوعي وخطيب، وله تلاميذ منتشرون في جميع أنحاء العراق.
عندما سألته عن الوضع الحالي لشيعة العراق.. أجابني: إِنَّ هناك إعلاماً تضليلياً مقصوداً من قبل وسائل الاعلام العالمي يستهدف إثارة الفرقة، والعداوة ، والبغضاء ، والخلاف المذهبي بين السنة والشيعة.
وحين سألته : ماذا سيحدث فيما لو غادر الاميركان العراق في هذا الاسبوع (مثلاً) .. فرد علي معقباً: مستحيل، لن يخرج الاميركان من العراق ، لان مصالحهم الستراتيجية في المنطقة تمتد من أفغانستان إلى المغرب العربي .. كيف تستطيع أن تسألني مثل هذا السؤال؟!..
والسيد البغدادي يتجاوز عمره (59) سنة، لكنَّه يتسم بنشاط دؤوب ، وطاقة شبابية متألقة ، حينما قفز من مكانه الخاص به إلى الرف ليتناول كتاباً تأريخياً، وهو يؤشر بيده الكريمة، ويتحدث عن الجاسوسة البريطانية قائلاً: ((مس بل)) تزعم أنها شخَّصَتْ المجتمع العراقي بكل عاداته وتقاليده ، وبكل اديانه ومذاهبه .. بيد أنها لم تعرف إلاَّ شيئاً قليلاً عنه، وكانت توقعاتها خاطئة بوصفها كانت تكتب رسائل إلى ابيها تارة، والى وزارة المستعمرات البريطانية تارة اخرى ، وتؤكد فيها أَنَّ العراقيين سوف يقاتلون مع الجندي البريطاني صفاً واحداً ضد العثمانيين بوصفهم اضطهدوا الشيعة ، ولكنَّ الجيوش البريطانية فوجئَتْ بالشيعة يقاتلون مع الدولة العثمانية (السنية) ضد الغزوة الصليبية في سبيل صيانة التوحيد والرسالة والقرآن .
ومن هنا أُعلق على حديثه : عندما توفيت بعد الحرب الكونية الاولى لم تتوقع أن تجد نفسها في قائمة سجل السيد البغدادي السوداء !..
إِنَّ الصحافة العالمية تحاول بقدر المستطاع تغطية المقاومة الوطنية والاسلامية في المثلث السني وحسب ، ولكن هناك عمليات نوعية في كربلاء والحلة والديوانية، وهذه مناطق شيعية، كُل ذلك قبل مواجهة جيش المهدي لقوى الاحتلال ، وهذه العمليات لا يشار اليها في وكالات الأَنباء العالمية!.. وقد كان هذا التعتيم مكراً خبيثاً كبقية أَصناف المكر الذي تمارسه الدعاية الاستكبارية الاستعمارية.
إِنَّ المجاميع والسرايا المقاتلة في جيش المهدي يقاومون صفاً واحداً، ويداً واحدة مع إخوانهم المجاهدين من أهل السنة والجماعة ضد المحتلين الاميركان .
والاستخبارات الدولية وفي مقدمتها : ((سي . آي . أي)) الاميركية و((أم . آي . دي)) البريطانية يؤكدون دائماً وأبداً: بمجِّرد خروج الاميركان ستحدث الحرب الاهلية بين أَبناء العراق، وهو يرفع يده محذراً، مستحيل... إنَّ هذه المزاعم الباطلة لن تنطلي على أهلنا وشعبنا.. ما هي الا سيناريو ، ومن اللٌعب السياسية التضليلية ، وهذه الحرب الأَهلية في عقيدتي لن تحدث في العراق ، لأن الشعب العراقي ينحدر من أَرهاط عربية أَصيلة ، ونسيج اجتماعي متراص لا يمكن تمزيقه بمسميات مذهبية، أو عرقية، أو أثنية.. وعندما ترى المخابرات المركزية ان هذه التهديدات والحرب النفسية لم تُثنِ، ولن تثني عزيمة رجال المقاومة ، فانهم ينتقلون إلى ورقة اخرى يهددون بها.. ألا وهي هجمات الزرقاوي والقاعدة على الجوامع والحسينيات وأئمة الجمعة والجماعة، ومن المزري أنَّ نجد الصحافة المحلية الناطقة باسم الواجهات السياسية العراقية، وراء هذه الدعوات المزيفة، تنبري بتصريحاتهم الفاسقة الظالمة الكافرة زاعمةً أَنَّ خروج الأَميركان في الوقت الحاضر فيه مردودات سلبية مرعبة.
وقد خاطبني السيد البغدادي هاتفاً على مضض: إِنَّ هذه المقابلة بيني وبينك لن تنشر في جريدة «الشرق الاوسط» اللندنية، لان هذا الحديث يغضب الإِدارة الاميركية ، وأياد علاوي ، وغازي عجيل الياور !..
والسيد البغدادي موسوعة سياسية دينية حوارية .. وقد أدلى لي بتصريح يقول : إِنَّ الاميركان اجتاحوا العراق بـ ((القوة)) ونصبوا حكاماً علينا كذلك بـ ((القوة)) ، ليس لهم جذور سياسية تأريخية في الساحة العراقية .
ان الشيعة الامامية يعتقدون بالائمة الإثنى عشر المعصومين ، وينفذون كل ما يصدر منهم ، وبخاصة تأكيداتهم في مناصرة الحكام .. حتى لو كانوا من الأَمويين والعباسيين المستبدين الظالمين ، ماداموا يحافظون على بيضة الاسلام ، ويصدون الهجمات الخارجية الرامية لاسقاط دولة الاسلام الظاهرية ، كل هذه التأكيدات من أجل نشر كلمة لا اله الا الله ، محمد رسول الله ... وهذا ما وجدوه من خلال أحاديث الرباط ، ومن خلال دعاء زين العابدين لأهل الثغور ، ومن خلال مواقف الامام علي مع (الخلافة الراشدة) .
وقد أمضى السيد البغدادي ست سنوات (تقريباً) في المنفى ليتجنب بطش صدام حسين باعتباره مطارداً ، وهو غير مكترث لذلك ، وكان عنيداً ضد النظام البائد ، وهو لا يشك في أَنَّ الاميركان لم يجتاحوا العراق بوصفهم منظمة خيرية إنسانية لانقاذ الشعب من الدكتاتورية ، وانما جاءوا عنوةً ليسرقوا ثروات العراق، علماً أَنَّ صدام حسين هو أداة من أدواتهم .. ثم ان هذه السفارة الاميركية التي أنشأوها بين نهري دجلة والفرات تعد من أكبر السفارات في العالم ، والقواعد التي أنشأوها في الجنوب وفي أعالي جبال شمال العراق التي فيها أجهزة التصنت الجاسوسية على دول منطقة الشرق الاوسط لا تحتاج إلى تفسير في الهيمنة الاستكبارية ، والاطماع الاستعمارية.
ووفقاً لكلام السيد البغدادي ان أميركا بدأت بغزو العراق ــ كبداية لتحقيق مشروع الشرق الاوسط الجديد ــ بعد ان وجدت العراق منهاراً .. بسبب الحصار الاقتصادي الظالم .. وبسبب الحروب المفتعلة مع دول الجوار!!..
إذن .. الاميركان جاءوا إلى العراق في سبيل سرقة بتروله .. لذا نجد ان هناك صراعاً بين الاميركان والاوروبيين على هذا البلد الامين .. بيد أنهم وصلوا إلى حل وسط (على ما أرى) على شرعية احتلال العراق بأسم القوات المتعددة الجنسيات ، وبقيادة الولايات المتحدة الاميركية.
وفي أثناء حديثه انقطع التيار الكهربائي، وتوقف صوت مكيف الهواء، فسرت الينا حرارة الصيف ، والسيد البغدادي ظل جالساً لايحرك ساكناً، وقدم لي كتاباً علمياً من مؤلفاته وهو : ((بحوث في الاجتهاد)) ، وعليه تقريظٌ يثبت إجتهاده ، وله حق الافتاء والقضاء .. ثم أراني أحد تلامذته سيرته الذاتية ، واكتشفت أنه كان ثورياً منذ طفولته، وهو مستمر في محاضراته ومناقشاته العلمية بطريقته الخاصة الفريدة ، هكذا تحدث طلابه وعارفو فضله.. ثم أراني صوراً فوتوغرافية تجمع بين آية الله الخميني وآية الله السيد البغدادي الكبير أيام النضال السلبي.. ثم بعد ذلك رجع التيار الكهربائي، وقد همس باذن صهره مشيراً الي بصوت خافت : هذا المراسل ــ على ما أعتقد ــ إِما جاسوس ، وإِما ليبرالي تقدمي .. وبالتالي قدم لي كتباً من مؤلفاته هدية لي ، وكتب على أحدها.. بسم الله، هذه هدية إلى الاخ المستر روبرت مع أطيب التمنيات، ولم أجد فتوى ضدي ، هكذا يبدو لي !!..