مدخل الى منظومة التخلف المجتمعي

مدخل الى منظومة التخلف المجتمعي
ربما كان من الأجدى قراءة هذا الكتاب مرتين وثلاث قبل الخوض في مطب نقده والتعليق عليه لكي لا يُبخس حقه في الطرح ومناقشة مواضيعه المتشابكة والخطيرة، ناهيك عن موضوعه الرئيسي: تراجع أداء الأمّتَيْن، العربية والإسلامية وتخلفهما عن ركب المدنية والحضارة في خضم جدلية آفَتَي التخلف والطغيان. ايهما السبب وايهما النتيجة؟، هل الطغيان يصنع التخلف أم ان التخلف يخلق الطغيان؟ او انه التخلف السلالي او الوراثي او التكويني. في كل الأحوال يتوصل اية الله البغدادي الى حقيقة محزنة: لقد اودى الركون الى الطغيان والسكون في التخلف بالإنسان العربي والاسلامي الى حالة مأساوية مذلة، وانتهت علاقة تكافؤ الفرص وشاع بين الناس استغلال الإنسان لأخيه الإنسان اشنع استغلال.
مهما يكن من امر، يعلن المؤلف ان هناك صناعة للأنظمة والمذاهب والأديان والأصنام والألهة البشرية، الغرض منها ان يبقى عقل الإنسان منفعلا مستسلما متأثرا لا فاعلا حرا مؤثرا، فيبقى في حضيض التخلف ويسهل قياده. يقرر الطغاة، طغاة الدين او طغاة السياسة، في العديد من الأمثلة التي يوردها الكتاب، ان الإنسان المتخلف الجاهل أسهل من الإنسان الواعي المثقف في الحكم والسيطرة والإنقياد. طغاة السياسة يحرصون على ابعاد المجتمع عن مراكز التنوير والعلم ومراصد الإستكشاف بينما يسعى طغاة الدين جاهدين في حشو رأسه بالخرافات والقداسة المزيفة وخلق الأعداء الذي لا هم لهم سوى القضاء على جذوة الخير في هذه الأمة المباركة، من صهيونية وامبريالية وغزاة. المهم هناك دائما وحش كاسر يتربص بالأمة لكي تبقى ايدينا على قلوبنا مخافة الهلاك ونسير خلفهم مذعنين في ذل ومهانة.
عندما غيرت تكنولوجيا المعلومات وثورة الإتصالات العالم ولم يعد بإمكان الطغيان حجب قبسات الحضارة والتمدن ظهرت ازمة الحداثة. يبسِّط اية الله البغدادي الأمر بشكل سلس ومفهوم. الحداثة بالمعنى الأوربي قطيعة معرفية مع الموروث الديني بينما الحداثة بالمعنى الإسلامي تعقل وتدبر واجتهاد ونبذ مقولة ان وجود الاحكام الشرعية ثابتة الى يوم الدين وانها توقيفية تعبدية لا يجوز الإقتراب منها، غير انها في الحقيقة ليس سوى مصاديق تاريخية، ولا بد من الإستنباط والإجتهاد الفقهي الذي يتبنى نظرية الزمان والمكان، لا سيما في منطقة الفراغ (غياب النص) الإلهي، الذي اتى بها الراحل محمد باقر الصدر. هذه هي الحداثة وليس ما يذهب اليه الحداثيون العرب في خطأ منهجي خطير، عندما يربطونها مع التغريب ويقولون ان لا نهضة الا باتباع الغرب وتبني اسلوبهم في الحياة.
هناك ضرورة لتخطي التفسير الحرفي المغلق للنص، وعلى الفقه ان يواكب التطور وأن ينفتح باب الإختلاف وتبادل الآراء. تعطيل العقل والحوار يعمق الإفتراق المصطنع بين العلم والدين. من هذا المنطلق يرى البغدادي ان التقارب بين المذاهب مسرحية كوميدية. بل يجب نبذ المذاهب لان الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يكن سنيا ولا شيعيا وان التعصب المذهبي اكبر خدمة نقدمها لأعداء الإسلام. اجترار التاريخ وتوظيفه في الصراعات ابتعاد عن العدل.
السلفية التقليدية الرجعية مفهوم معاكس للحداثة لأنها تقرر يقينا واحدا لا سبيل الى مراجعته بينما الإنسانية بحاجة الى الفقيه الحركي الرسالي.. تقليد المكلف للفقيه لا اصل له وهو ابتداع للسلطان الغصبي لصنع اصنام بشرية. ان اعادة قراءة التراث الشرعي بل والتاريخ، تستدعي اعادة الإعتبار للعقل الإسلامي وجعله عقلا حداثوياً لا تخريفيا حمالا للقراءات الشاذة، في حين ان المؤسسة الدينية الرسمية لا تسعى الى بناء مجتمع عقلاني وانما شعاراتي ماضوي وتؤدي الى الإرتداد والعصيان على الأديان. نسب الإلحاد في مجتمعاتنا مقلقة جداً. العراق ٣٩٪. ايران ٣٠٪. السعودية ٢٥٪. القاهرة حصرا ٢٠٪ . نحن بحاجة الى عقل قائم على المراجعة والنقد والمحاسبة. لله درّك ايها الشيخ البغدادي الأصيل.
الطاغوت السياسي صناعة المجتمع المتخلف حقيقًة، يصنعون الطغاة ثم يقولون انهم ابطال ورموز وولاة نعمتهم حتى تفشى الكذب في كل شيء واصبحنا نرى السرقة بفتوى دينية يسمونها "مجهول المالك"، لقد حولوا العراق الى موت وقحط وخراب فسقطت الهيبة التقديسية بعد فشل تجربة الأحزاب الإسلامية واصبح المواطن المقهور لا يؤمن بالدولة الدينية ويدعو الى فصل الدين عن السياسة وهو ما لم يدعُ اليه حتى الغرب الذي يدعي العلمانية. لقد ابعدوا الكنيسة عن السلطة فعلاً، لكنهم لا يترددون في استخدام مؤشرات العهد القديم ويرون اوربا ناديا مسيحيا لا مكان لتركيا فيه.
نلاحظ ان البغدادي، في تقييمه للشخصية العراقية ينحو منحى اخر، غير ذلك الذي اعتمده علي الوردي. يرى الوردي العراقي ازدواجياً في شخصيته بسبب تنازع قيم البداوة والحضارة وبسبب جمع جغرافيته بين خصوبة النهرين والصحراء القاحلة. بينما يقول البغدادي ان العراقيين يتصفون بالعناد وعدم الاكتراث للخصوم ويمتازون باستعدادهم الوثاب الى غزو الآخرين وضربهم وانهم لا يومض في خيالهم غير النار والدماء والإنتقام، سريعو العاطفة، راديكاليون في كل شيء وقضية ويثورون ضد اية جهة تظلمهم وتتعسف في التعامل معهم. والعراق تبعا لذلك، في تصورهم كائن مقدس جبار ازلي ابدي، ثم يبين علة كل ذلك فيقول البغدادي: عندما تسألهم لماذا؟ يكون الجواب: نحن مهبط الأنبياء او الأوصياء أو الأولياء ولأننا بلد ثري غني بالثروات الطبيعية.
طبعا لا غرابة في هذين المنحيَيْن، كل منها، الوردي والبغدادي ينطلق من خلفيته العلمية وموروثه الثقافي. عالم اجتماع وعالم دين. غير ان عالم الدين في واقع الأمر لا يقيد نفسه بموروث عالم الدين بل ينزع ايضا الى السياسة والإقتصاد والإجتماع
والتاريخ لكي يكمل رؤيته الشاملة عن شخصية العراقيين. لقد انعكست الملامح العاصفة التي شخصها البغدادي الى نوع من التناحر الداخلي والشقاق. يورد في هذا الشأن كيف ان العراقيين اختلفوا حول من يقود البلد في كل مراحل نشأة دولتهم الحديثة منذ اضطرار الإنكليز في البداية الى جلب ملك من الخارج، مرورا
بثورة ١٩٥٨ ثم تناحر الضباط فيما بينهم وقتل بعضهم البعض، ومن ثم انقلاب صدام على رفاقه عام ١٩٧٩ واعدام العشرات منهم واخيرا في عام ٢٠٠٣ عندما نصب الأمريكان حاكما منهم على العراق ولم يستقم امر الرئاسة مع العراقيين الا بإختراع بدعة كل شهر رئيس. اما لماذا كل هذا التناحر؟ يجيب البغدادي: لو سألت اي مواطن عراقي بسيط في الشارع، هل تعتقد انك تصلح لأن تكون رئيسا فإنه يجيب على الفور وبلا تردد: نعم وانه يستطيع حل مشاكل العراق في ظرف اسبوع. وكأن البغدادي يقول لنا: بربكم كيف يستقيم امر بلد يعتقد كل فرد من اربعين مليون شخص انه الرئيس الأنسب للبلاد.
يطرح البغدادي الكثير من القضايا "الراديكالية" التي لم ولن ينقطع حولها الجدال، الا ان في أوج تلك القضايا الملتهبة يأتي ما تم التعارف عليه تاريخيا على ان يكون المرجع الديني الأعلى من اصول فارسية او تركية ايرانية حصرا وليس عربية، وهو ما عزل المرجعية عن بعدها الوطني فلا يؤمن الا بالولاية الحسبية على الأوقاف او الأيتام او القاصرين او المعتوهين او السفهاء، وهي ولاية، يقرر البغدادي، وهو على حق تماماً، لا وجود لها في القرآن العظيم.
نتيجة لضعف الإنتماء الوطني، يرى البغدادي ان المرجعية لم تكن ذات دور مؤثر، ومع تناحر الطبقة السياسية التي انطلقت من الرئيس الشهري وشروعها بالممارسات الطائفية والقسمة المذهبية والمحاصصة الوظيفية، وجدت تنظيمات القاعدة وداعش السبيل ممهدا للتسلل عبر الحدود واغراق البلد بالإقتتال والتفجيرات.
في نظرة علمية تحدث عنها اهل الفلسفة، مفادها ان الإنسان يولد مؤمناً “Born Bliever” يذهب اية الله البغدادي الى اقرار ان الإنسان، مثلما هو بحاجة الى مأكل ومشرب ومأوى يأتمن فيه على حياته، فهو بحاجة الى اوهام وخرافات وآلهة واصنام وأضرحة ومقامات وصالحين وأولياء لتستقر نفسه وتطمئن. الخرافة موقف نفسي. غير ان المؤسف في الأمر: ان هذه الحقيقة تحوِّل الإنسان من دين ومذهب الى دين ومذهب آخر بسرعة الضوء وتصل به الى تعطيل الفكر النقدي والعقلنة الموضوعية القائمة على الواقع، وينتظر الكرامات والخوارق من الأولياء، يغذي ذلك الوهم الشيوخ واهل الطرق الصوفية وفقهاء المؤسسة الشيعية النجفية الرسمية ويزعمون انها تحل المشكل العائلي سواء كان انجابا او جنسا او مرضا او اية معضلة، وحولوا اضرحة المعصومين الى متاحف للكنوز والهدايا ومستودعات للنذور.
بل لم يكتفوا بذلك، ولأن الحاجة كبيرة جدا وهناك اقبال عارم على الخرافة، اصطنعوا في كل بلدة وقرية مقاما او ضريحا. يروي البغدادي عن علي الوردي ان احد الثقاة اخبره ان كثيرا من قبور الأنبياء ومقامات الأئمة الموجودة في جامع الكوفة وجامع السهلة من صنع الأحلام. ويورد العديد من الأمثلة عليها، دون ان يحصرها في العراق وانما في بلاد اخرى مثل مصر وايران. ثم رأينا انهم عندما ارادوا اضفاء بعد دستوري على العتبات والأضرحة لم يضعوا لها تعريفا محددا جامعا مانعا، وذلك لكي تكون لهم الكلمة الفصل في التصرف، وهكذا حولوها بسهولة الى شركات كبرى.
ينتهي البغدادي مثلما بدأ في وحدة موضوعية لطروحات كتابه الشيق فيقول: حري بنا ان نطرح سياقات حول المشكلة كل المشكلة: في عمق منظومة تأخرنا وتخلفنا تقبع مشكلة التاريخ، بمعنى اخر، نحن نعيش في الماضي بإنفصام عن الحاضر وغياب عن المستقبل.
الاستاذ صباح صالح ملكا
اكاديمي ومستشار سياسي وعسكري
١ آذار ٢٠٢٣م