كلمة الجمعة لسماحة الفقيه المرجع السيد احمد الحسني البغدادي دام ظله بتاريخ ۲٦ جمادي الاولى

كلمة الجمعة
في جميع أصقاع الارض يعاني الانسان نوع الانسان، وعلى مر العصور والازمنة.. الصراع والاختناق بين قيمه وتعاليمه الكبرى، وبين آفاق وجوده الذي يعيش فيه.
ولعل خير مثال يمكن أن نبدأ به هو: المجتمع الاوروبي، الذي صاغ كيانات حضارية مختلفة كان نهاية مطافها المدنية «التكنولوجية» المعاصرة، بيد ان المدنية «التكنولوجية» هذه لم تكن وليدة المؤسسة الكنيسية «الدينية» الرجعية، التي تشجب العوالم الطبيعية والارضية في هذا الكون الرهيب كله، وتشجب تفسير الحركة التاريخية كذلك، وانما هي وليدة انحلال الدين المسيحي.. قفز به المجتمع الاوروبي بضرورة حاجاته الملحة، واعتباره كإنسان جديد واع بوجوده في هذا الكوكب الارضي الصغير، لذلك فالمدنية «التكنولوجية»، التي صاغها الإنسان الاوروبي.. شجب للمسيحية التقليدية القديمة، وتجرد نهائي عن مغزاها.. ومن ثم ولد النزاع في داخل تكوين الإنسان الاوروبي بين قيمه وتعاليمه الكبرى، وبين وجوده الذي بناه على تلاشي هذه القيم والتعاليم.
ولم تكن الماركسية ذات الوصفة الجامدة.. إلا تعبير عن هذه الازمة، وهذا الاختناق، وهذا النزاع.. المليء بالمخاطر الهدامة بما يظهر انه حل للمشكلة، فالأيديولوجيا الماركسية تمثل مشكلة الروح المسيحية التقليدية الرسمية.. وقد بلغت ذروتها في الاعماق، فعمدت إلى حل هول المشكلة الخانقة عن طريق نسف أصول القيم والتعاليم الكبرى من جميع مظاهر الحياة اليومية للانسان، وهي تطمح بصفة رئيسية الى نسخ المثل الروحية العقيدية الايمانية ذاتها من الإنسان الصالح المستقيم.
وعلى أساس هذه المحاولة نقول: وفي ضوء الحسابات الدقيقة النهائية ان المثل الروحية الايمانية العقيدية تتحرك ضمن فترة واقعية بعيدة الغور داخل تكوين الإنسان نفسه.. ومن المستحيل الهيمنة عليها، والانفصال عنها، والتجرد منها إذا لم تتغير القيم والتعاليم ذاتها.. ومن المستحيل ان ينسخ نزاع الكائن الداخلي بين القيم والتعاليم الكبرى، وبين جوهر تركيبة الإنسان الحركية، وذلك لأن طبيعة هذه المثل الروحية غريزة، وتكمن في نفسية تركيبه العضوي بفعالية صلدة لا تزول، وهي: القيم الاساسية للدفع التاريخي ومنجزاته في أعلى الدرج الصاعد، الذي يليق بمكانة الجماعة البشرية في الساحة العالمية.
وبهذا تسقط إبتداءً كل المفارقات، والتناقضات، والاختناقات، التى يمكن ان تعلق بأيّ نشاط حركي حضاري تاريخي فاعل لا يعتمد برنامجا ثوريا شموليا تكامليا.. أو لا يسعى إلى هدف جلي متغلغل في سياق الواقعة التاريخية، والكشف عن مسارها الخفي.
ولا يلتزم عقلانية الإنسان في حواره الصارم مع الواقع العملي، الذي يعيش فيه، وتنظيمه على ضوء التجارب الماضية والحاضرة من ايجاد أكبر قدر ممكن من التغيير الجذري لخير أكبر تجمع من المجتمع البشري.
احمد الحسني البغدادي
النجف الاشرف
۲٦ جمادى الأولى ١٤٤٣هـ